بينهما، لأن أحدهما كافٍ. فلذلك لزم إضمارُ عامله، وصار ذلك بمنزلة قولك: "نِعْمَ زيدٌ". أُضمر "الرجل" في "نِعْمَ" وجُعلت النكرةِ، تفسيرًا له، ولم يجز إظهارُ ذلك المضمر اكتفاءً بالتفسير بالنكرة، فكذلك ها هنا.
وذهب الكوفيون (١) إلى أنّه منصوب بالفعل الظاهر، وإن كان قد اشتغل بضميره، لأنّ ضميره ليس غيرَه، وإذا تعدّى إلى ضميره كان متعدّيًا إليه. وهو قول فاسد، لأنّ ما ذكروه، وإن كان من جهة المعنى صحيحًا، فإنّه فاسدٌ من جهة اللفظ. وكما تجِب مُراعاةُ المعنى كذلك تلزَم مراعاةُ اللفظ. وذلك أنّ الظاهر والمضمر ها هنا غيران من جهة اللفظ، وهذه صِناعةٌ لفظيةٌ، وفي اللفظ قد استوفى مفعولَه بتعدّيه إلى ضميره، واشتغالِه به، فلم يجز أن يتعدّى إلى آخَرَ.
والذي يدلّ أنَّه منصوبٌ بفعل مضمر غيرِ هذا الظاهر أنّك قد تقول: "زيدًا مررتُ به"، فتنصب "زيدًا"، ولو لم يكن ثمَّ فعلٌ مضمرٌ يعمل فيه النصبَ، لمَا جاز نصبه بهذا الفعل, لأن مررت لا يتعدّى إلّا بحرفِ جرّ، فأما قوله [من الطويل]:
إذا ابنَ أبي موسى بلالًا ... إلخ
فالبيت لذي الرُّمّة وقبله [من الطويل]:
أقولُ لها إذ شَمَّرَ اللّيلُ واستوتْ ... بها البِيدُ واشتدّتْ عليها الحَرائرُ
وبلالٌ هذا ابنُ أبي بُرْدَةَ قاضي البصرة، وأبو موسى جَدُّه، واسمُ أبي بردة عامرٌ، واسمُ أبي موسى عبدُ الله بن قيس الأَشْعَريّ.
والشاهد فيه نصبُ "ابن أبي موسى" بفعل مضمر تفسيرُه: بلغتِه، كأنّه قال: "إذا بلغتِ ابنَ أبي موسى بلالًا بلغتِه". وربّما رُفع على تقديرِ فعل ما لم يسمَّ فاعلُه، كأنّه قال: "إذا بُلغ ابنُ أبي موسى" لأنّ "إِذَا" فيها معنى الشرط، فلا يَلِيها إلّا فعلٌ هذا هو الوجه.
والمعنى أنّه يخاطب ناقتَه، يقول: إذا أوصلتِني إلى بلال استغنيتُ عنك، لأنّي أستغنى به عن الرحِيل إلى غيره.
وقوله: "فقام بفأس بين وصليك جازرُ" دعاءٌ، ولولا ذلك لم يجز دخولُ الفاء. ألا ترى أنك تقول: "إن أتاني زيدٌ أتيتُه" ولا يجوز: "فأتيتُه"؟ وتقول: "إن أتاني زيد فأَحْسَنَ اللهُ جَزاءَه" لأنّ فيه دعاءً.
والوِصْل بالكسر: واحدُ الأوَصال، وقد عيبَ عليه ذلك. قالوا كان سبيلُه إذا أوصلْته إلى مقصوده ومطلوبه أن يُعامِلها بالحُسْنَى، وينظُرَ إليها، لا أن ينحَرها، فهو إِذًا
(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ٨٢ - ٨٣.