للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويؤيّد عندك كَوْنَ الواو في مذهب العاطفة، وإن كانت بمعنى "مَعَ"، أنّه لا يجوز تقديمُ المفعول معه على الفعل، كما يجوز في غيره من المفعولين، وفي "مَعَ" إذا أتيتَ بها. وإذا كانت في مذهبِ العاطفة لم يجز أن تعمل جرًّا، ولا غيرَه، لأنّ حروف العطف لا اختصاصَ لها بالأسماء دون الأفعال، بل تُباشِر الأفعالَ مباشرتَها الأسماء. والحروف التي تباشر الأسماء، والأفعال لم يجز أن تكون عاملةً، إذ العامل لا يكون إلّا مختصًّا بما يعمل فيه. وإذا لم يجز أن تعمل الواو شيئًا، كان ما بعدها منصوبًا بالفعل الذي قبلها، هذا مذهبُ سيبويه (١). وكان أبو الحسن الأخفش يذهب في المفعول معه إلى أنّه منصوبٌ انتصابَ الظرف، قال: وذلك أنّ الواو في قولك: "قمت وزيدًا" واقعةٌ موقعَ "مَعَ"، فكأنّك قلت: "قمت مع زيد"، فلمّا حذفتَ "مَعَ" وقد كانت منصوبةً على الظرف، ثمّ أقمت الواوَ مُقامَها، انتصب "زيدٌ" بعدها على حدِّ انتصابِ "مَعَ" الواقعةِ الواوُ موقعَها، وقد كانت "مَعَ" منصوبة بنفسِ "قُمْتُ" بلا واسطةٍ، فكذلك يكون انتصابُ زيد بعد الواو جاريًا مجرَى انتصاب الظروف. والظروفُ ممّا تَتناولها الأفعالُ بلا وساطةِ حرف، لأنّها مقدَّرةٌ بحرف الجرّ، فإذا الواو ليست مُوصِلةً للفعل إلى زيد على مذهبه كما يقول سيبويه وأصحابُنا (٢)، وإنّما هي مُصْلِحةٌ لزيد أن يُنصب على الظرف بتوسُّطها، وكان الزجّاج يقول: إنّك إذا قلت: "ما صنعتَ وزيدًا" إنّما تنصب "زيدًا" بإضمارِ فعل كأنّه قال: "ما صنعتَ ولابستَ زيدًا" قال: وذلك من أجلِ أنّه لا يعمل الفعلُ في مفعولٍ، وبينهما الواوُ.

وذهب الكوفيون (٣) في المفعول معه إلى أنّه منصوبٌ على الخلاف، قالوا: وذلك أنّا إذا قلنا: "استوى الماء والخَشَبَة" لا يحسن تكريرُ الفعل، فيقال: "استوى الماءُ واستوتِ الخشبةُ"، لأنّ الخشبة لا تكون مُعْوَجَّة، فتستوِيَ. فلمّا خالَفَهُ ولم يُشارِكه في الفعل، نُصب على الخلاف، قالوا: وهذه قاعدتُنا في الظرف، نحو قولك: "زيدٌ عندك".

والصواب ما ذهب إليه سيبويه من أنّ العامل الفعلُ الأوّلُ، لأنّه وإن لم يكن متعدّيًا، فقد قُوّيَ بالواو النائبة عن "مَعَ"، فتَعدَّى كما تعدّى الفعلُ المقوَّى بحرف الجرّ، نحو: "مررتُ بزيد"، إلّا أنّ الواو لا تعمل لِما ذكرناه من أنّها في مذهب العطف، وذلك لأنّها في الأصل عاطفةٌ، والعاطفةُ فيها معنيان: العطفُ، والجمعُ. فلمّا وُضعتْ موضعَ "مَعَ"، خُلعتْ عنها دلالةُ العطف، وبقيت دلالة الجمع فيها، كما أنّ فاء العطف فيها معنى العطف والإتباع، فهذا وقعت في جواب الشرط، خُلع عنها دلالة العطف، وبقي معنى الإتباع.


(١) الكتاب ١/ ٢٩٧.
(٢) الكتاب ١/ ٢٩٧.
(٣) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ٢٤٨ - ٢٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>