للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أنّ المصدر قد يقع في موضع الحال، فيقال: "أتيتُه رَكْضًا"، و"قتلتْه صَبْرًا"، و"لقيتُه فُجاءةً وعِيانًا" و"كلّمتُه مُشافَهةً". والتقدير: أتيتُه راكِضًا، وقتلتُه مصبورًا، إذا كان الحالُ من الهاء، فإن كان من التاء فتقديرُه: قتلتُه صابرًا، ولقيتُه مُفاجِئًا ومُعايِنًا، وكلّمتُه مُشافِها. فهذه المصادرُ وشبْهُها وقعتْ موقعَ الصفة، وانتصبتْ على الحال كما قد تقع الصفةُ في موقع المصدر المؤكِّدِ، نحوَ: "قُمْ قائمًا"، والأصلُ: قُم قِيامًا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يُحمَل على ظاهره، فيقالَ: إِنّه حالٌ، لأنّك لا تأمر بفعلٍ مَن هو فيه؟ ومثلُه قوله [من الطويل]:

على حِلْفَةٍ لا أشْتِمُ الدَّهْرَ مُسْلِمًا ... ولا خارِجًا مِن فِيَّ زُورُ كَلامِ

البيت للفَرَزْدَق وقبله:

ألَمْ تَرَنِي عاهَدْتُ رَبِّي وإنِّنِي ... لَبَيْنَ رِتاجٍ قائمًا ومَقامِ

الشاهد فيه نصبُ "خارجًا من فيّ زورُ كلام". ونَصَبَه لوُقوعه موقع المصدر الموضوع موضعَ الفعل. والتقديرُ: عاهدتُ رَبّي لا يخرُج من فيَّ زورُ كلام خُروجًا. ويجوز أن يكون قوله: "ولا خارجًا" حالًا، والمراد: عاهدتُ ربّي غيرَ شاتمٍ، ولا خارجٍ، أي: عاهدتُه صادقًا. وهو رأيُ عيسى بن عمرو، والمعنى أنّه تابَ عن الهِجاء، وقَذْفِ المُحصَنات، وعاهَدَ اللَّهَ على ذلك بين رِتاجِ الكَعْبة، وهو بابُها ومقامِ إبراهيمَ، صلواتُ الله عليه. والأوّلُ مذهبُ سيبويه، وليس ذلك بقياس مُطّرِد وإنّما يُستعمل فيما استعملته العربُ، لأنّه شيءٌ وضع موضعَ غيره، كما أنّ باب "سَقيًا ورَعْيًا" و"حَمْدًا" لا يطّرِد فيه القياس، فيقال فيه: "طَعامًا وشَرابًا".

وكان أبو العَبّاس يُجِيز هذا في كلّ شيء يدلّ عليه الفعلُ، فأجاز أن تقول: "أتانا رُجْلَةً"، و"أتانا سُرْعَةً"، ولا يقال: "أتانا ضَرْبًا"، ولا "أتانا ضِحْكًا"، لأنّ الضرب والضحكَ ليسا من ضروب الإتيان، لأنّ الآتِيَ ينقسِم إتيانُه إلى سُرْعةٍ، وإبْطاءٍ، وتوسُّطٍ، وينقسم إلى رُجْلَةٍ ورُكوبٍ، ولا ينقسم إلى الضرب، والضحكِ. وكان يقول: إنّ نصبَ "مَشْيًا" وشِبْهِه إنّما هو بالفعل المقدَّر، كأنّه قال: أتانا يَمْشِي مَشْيًا.

والصحيح مذهبُ سيبويه، وعليه الزجّاجِ، لأنّ قولَ القائل: "أتانا زيدٌ مشيًا" يصِحّ أنّ يكون جوابًا لقائلٍ قال: "كيف أتاكم زيدٌ؟ " وممّا يدلّ على صحّةِ مذهب سيبويه أنّه لا يجوز أنّ تقول: "أتانا زيدٌ المَشْيَ" مُعَرَّفًا. وعلى قياس قول أبي العبّاس يلزَم أن يجوز ذلك، لأنّه يكون تقديرُه: أتانا زيد يمشي المشيَ، كما قالوا: "أرْسَلَهَا العِراكَ". والتقديرُ: أرسلها تعترِكُ العراكَ. وقد ذهب السيرافيُّ إلى جوازِ أنّ يكون قولك: "أتانا زيدٌ مَشْيًا" مصدرًا مؤكِّدًا، والعاملُ فيه أتانا، لأنّ المَشْيَ نَوْعٌ من الإتيان، ويكون من المصادر التي ليست من لفظ الفعل، نحو: "أَعْجَبَنِي حُبًّا"، و"كَرِهْتُه بُغْضًا"، و"تَبسّمَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>