للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو "مُلاصِقًا" كائه قال: كلّمتُه جاعلًا فاهُ إلى فيّ، أو ملاصقًا فاه إلى في. والمذهب الأوّل، وهو رأيُ سيبويه (١)، إذ لو كان بإضمار "جاعلًا"، لَما كان من الشاذّ الذي لا يُقاس عليه غيرُه، ولَجاز أنّ تقول: "كلّمتُه وَجْهَه إلى وَجْهي"، و"عَينَه إلى عيني"، وأشباهَ ذلك. وفي امتناعه دليلٌ على ما قلناه. وبعضُ العرب تقول: "كلّمتُه فُوهُ إلى فيَّ"، فيرفعونه بالابتداء والخبرِ، والجملةُ في موضع الحال، كأنّك قلت: "وفُوهُ إلى فيّ"، إلاّ أنّك استغنيتَ بإضمار العائد إليه عن الواو، ولولا الضميرُ المضاف إليه، لم يكن بدٌّ من الواو.

وأمّا "بايَعْتُه يَدًا بِيَدٍ" فهو أيضًا من بابِ "كلّمتُه فاه إلى فيَّ"، لأنّه اسمٌ نائبٌ عن مصدر في معنى الصفة، كأنّه قال: "بايعتُه مناَقدَةً"، أي: ناقِدًا، إلاّ أنّ معناهما مختلِفٌ، ولذلك لا يجوز في "بايعتُه يَدًا بِيَدٍ" أن تقول: "بايعتُه يَدُه بِيَدٍ" بالرفع. ولا يجوز فيه غيرُ النصب بخِلافِ "كلّمتُه فُوه إلى فيَّ"، لأنّ المراد من قولك: "بايعتُه يدًا بِيَدٍ" التعجيلُ، والنَّقْدُ، وإن لم يكن بينهما قُرْبٌ في المكان. والمرادُ بقولك: "كلّمتُه فاهُ إلى فيَّ" القربُ في المكان، وأنّه ليس بينهما واسِطةٌ، فمعناهما مختلفٌ وإن كان طريقهما في تقدير الإعراب واحدًا.

وأمّا قولهم: "بِعْتُ الشاء شاةً ودرهمًا"، فـ "شاةً" نصبٌ على الحال، وصاحبُ الحال "الشاءُ"، والعاملُ الفعل الذي هو "بِعْتُ"، والشاةُ وإن كان اسمًا جامدًا، فهو نائبٌ عن الصفة، لأنّه وقع موقعَ "مسعِّرًا"، فإذا قلتَ: "بعتُ الشاءَ شاةً ودرهمًا"، فمعناه "بعتُ الشاء مسعِّرًا على شاة بدرهمٍ". وجُعلت الواو في معنى الباء، فبطل الخفضُ وجُعل معطوفًا على "شاةً"، فاقترن الدرهمُ والشاةُ، فالشاةُ مُثمَّنٌ، والدرهمُ ثَمَنُه. وأجاز الخليلُ (٢): "بعتُ الشاء شاةٌ ودرهمٌ" بالرفع، والمرادُ: بدرهمٍ. فـ "شاةٌ بدرهم" ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، فأما إذا قال: "شاة ودرهم"، فتقديره: شاة ودرهم مقرونان، فالخبر محذوفٌ، كما تقول: "كلُّ رجل وضَيْعَتَه" بمعنى: مع ضيعته، لأنّ في الواو معنى "مَعَ"، فصحّ معنى الكلام بذلك، وكذلك "بعتُ الشاء شاةٌ ودرهمٌ" لمّا رفع الدرهم، وعطفه على الشاة، قدّر خبرًا لا يخرج عن معنى "مع"، وهو مقرونان.

ومثله "بيّنتُ له حِسابَه بابًا بابًا" فـ "بابًا" نصبٌ على الحال، لأنّه في معنى "مُصنَّفًا"، و"مُرتَّبًا". وهذه الأسماء التي في هذا الباب لا ينفرد منها شيءٌ، ولا بد من إتباعه بما بعده، فلا يجوز "كلمته فاه" حتى تقول: "إلى فيَّ" لأنك تريد إِنما تريد: مشافَهةً. والمشافهةُ لا تكون إلّا من اثنَيْن (٣). وكذلك لا يجوز: "بايعتُه يَدًا" حتى تقول


(١) الكتاب ١/ ٣٩١، ٣٩٢.
(٢) الكتاب ١/ ٣٩٣.
(٣) يتابعُ الشارحُ سيبويه في هذا التفصيل. انظر: الكتاب ١/ ٣٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>