التقديرُ:"ما جاءني إلّا زيدٌ", لأنّ البدل يحُلّ محلَّ المُبْدَل منه، ألا ترى أنّ قولك:"مررتُ بأخيك زيدٍ" إنّما هو بمنزلةِ "مررت بزيدٍ" لأنّك لمّا نحّيتَ الأخَ، قام زيدٌ مقامَه، فعلى هذا تقول:"ما جاءني أحدٌ إلّا زيدٌ"، و"ما رأيت أحدًا إلّا زيدًا". و"ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٍ".
وإنّما كان البدل هو الوجهَ, لأن البدل والنصبَ في الاستثناء من حيثُ هو إخراجٌ واحدٌ في المعنى، وفي البدل فضلُ مشاكَلةِ ما بعدَ "إلّا" لما قبلها، فكان أوْلى.
وكان الكِسائيّ والفرّاء يجعلان ما جعله سيبويه ههنا بدلًا من قبيل العطف، وقال أبو العبّاس ثَعْلَبٌ: كيف يكون بدلاً، و"أحدٌ"، منفيٌّ، وما بعد "إلّا" موجَبٌ؟ والجوابُ أنّه بدلٌ منه في عملِ العامل فيه، وذلك أنّا إذا قلنا:"ما جاءني أحدٌ"، فالرافعُ لـ"أحدٍ" هو"جاءني"، وإذا لم نذكر "أحدًا"، وقلنا:"ما جاءني إلّا زيدٌ"، فالرافعُ لـ "زيد" هو "جاءني" أيضًا، فكل واحد من "أحدٍ"، و"زيدٍ" يرتفع بـ "جاءني" إذا أفردتَه، فإذا جمعنا بينهما، فلا بدّ من رفعِ الأوّل منهما بالفعل, لأنه يتّصِل به، ويكون الثاني تابعًا له، كما يتبعُه إذا قلت:"جاءني أخوك زيدٌ"، إذ الفعلُ لا يكون له فاعلان.
وأمّا اختلافُهما في النفي والإيجابِ، فلا يُخْرِجهما عن البدل, لأنّه ليس من شرط البدل أنّ يُعَدّ في موضعِ الأوّل إذا قُدّر زوالُه، بل من شرط البدل أنّ يعمل فيه ما يعمل في الأوّل في موضعه الذي رُتب فيه. وقد يقع في العطف، والصفةِ نحوُ ذلك، وهو أنّ يكون الأوّلُ موجَبًا، والثاني منفيًّا، فالعطفُ نحوُ:"جاءني زيدٌ لا عمرٌو"، و"مررت بزيدٍ لا عمرو"، و"رأيت زيدًا لا عمرًا". فالثاني معطوفٌ على الأوّل، وهما مختلِفان في المعنى من حيثُ النفيُ والإثباتُ. وكذلك تقول في الصفة:"مررت برجلٍ لا كريمٍ ولا عالمٍ" فـ "كريمٌ" مخفوضٌ, لأنّه نعتٌ لـ"رجلٍ"، وأحدُهما موجَبٌ، والآخرُ منفيٌّ. وإذا جار ذلك في العطف والنعتِ، جاز مثلُه في البدل, لأنّه مثلهما من حيثُ هو تابعٌ.
فإن قيل: فلِمَ لا جاز البدلُ في الإيجاب كما جاز في النفي، فقلت:"جاءني القومُ إلّا زيدٌ" كما قلت في طَرَفِ النفي، وإلَّا فما الفرقُ بينهما؟
قيل: لأنّ عِبْرةَ البدل أنّ يحُلّ محلَّ المبدَل منه، وفي المنفيّ يصحّ حذفُ الاسم المبدَلِ منه قبل "إلّا"، ولا يصحّ ذلك في الموجب، لا يُقال:"أتاني إلّا زيدٌ"، وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ النفي الذي قبلَ "إلّا" قد وقع على ما لا يجوز إثباتُه من الأشياء المتضادّةِ، ألا ترى أنّا إذا قلنا:"ما أتاني أحدٌ"، كنّا قد نَفَيْنا إتيانَ كلّ واحد على سبيل الاجتماع والافتراقِ؟ ولو أخذنا نُثْبِت إتيانَهم على هذا الحدّ لكانَ مُحالاً, لأنّك توجِب لهم الإتيانَ على هذه الأحوال المتضادّةِ. والذي يُؤيِّد عندك ذلك أنّك تقول:"ما زيدٌ إلّا قائمٌ". نفيتَ عنه القعودَ والاضطجاعَ، وأثبت له القيامَ، ولا تقول:"زيدٌ إلّا قائمٌ"،