للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و"إيّاهُ"، تَجرّدتا من معنى الاسميّة، وخلصتا لدلالة الحرفيّة. ويُؤكد عندك كونَها حروفًا غير أسماء أنّه لم يُسمَع عنهم تأكيدُها. لم يقولوا: "إيّاك نفسَك"، ولا "إيّاكم كُلَّكم"، ولا "إيّايَ نفسي"، ولا "إيّاهم كلَّهم". ولو كانت أسماء، لساغ فيها ذلك. وقد ذهب الخليلُ (١) إلى أنّ "إيَّا" في "إياك" اسمٌ مضمرٌ مضافٌ إلى الكاف. وحُكي عن المازنيّ مثله أنه مضمرٌ أُضيفُ إلى ما بعده، واعتمد على ما حكاه عن العرب. قال سيبويه (٢): حدّثني من لا أتَّهِمُ عن الخليل أنَّه سمع أعرابيًّا يقول: "إذا بلغ الرجلُ السِتّين فإيّاهُ وإيَّا الشَوابِّ". قال: وقوعُ الظاهر موقع هذه الحروف مخفوضًا بالإضافة يدلّ على أنها أسماءٌ في محلِّ خفض. وحُكي عن أبي عثمان أنّه قال: لولا قولُهم: و"إيّا الشوابِّ"، لكانت الكافُ للمخاطب.

وحكى سيبويه (٣) عن الخليل أن قائلاً لو قال: "إيّاك نفسَك"، لم أُعنِّفْه. يريد: لو أكّدها بمُؤكِّد لم يكن مُخْطِئًا. وهو قولٌ فاسدٌ؛ لأنّه إذا سُلّم أنّه مضمرٌ، لم يكن سبيلٌ إلى إضافته، لما ذكرناه من أنّ الغرض من الإضافة التخصيصُ، والمضمراتُ أشدُّ المعارف تخصيصًا، وما أضيف من المعارف، نحو: "زيدكم"، "وعمركم"، فعلى تأويلِ التنكيرِ كأنّه توهّم أن جماعةً مسمَّيْنَ بهذَيْن الاسمَيْن، فأضافَهما. ولولا ذلك لم تسُغ إضافتُها. والمضمراتُ لا يُتصوّر تنكيرُها بحالٍ، فلا يمكن إضافتها. وأمّا قولهم: "وإيَّا الشوارب" فمحمولٌ على الشُّذوذ، وذلك أسهلُ من القول بإضافة المضمر. وأمّا قوله: لو أن قائلاً قال: "إيّاك نفسَك"، لم أُعنِّفه، فليس ذلك بروايةٍ رواها عن العرب، ولا مَحْضَ إجازةٍ، بل هو قياسٌ على ما رواه من قولهم: "وإيّا الشَّوابّ". وأبو الحسن استقلّ هذه الحكايةَ، ولم تكثُر، ولم يجز القياسُ عليها، فلم يجز "إيّاك وإيّا الباطلِ". ولم يستحسِن الجميعُ إضافةَ هذا الاسم إلى الظاهر.

وذهب أبو إسحاق الزجّاجُ إلى أن "إيّا" اسمٌ ظاهرٌ يضاف إلى سائرِ المضمرات، نحو قولك: "إيّاك ضربتُ"، و"إيّاهُ حدّثتُ"، ولو قلت: "إيّا زيدِ حدّثتُ"، كان قبيحًا؛ لأنّه خُصّ به المضمرُ. قال: والهاء في "إيّاه" مجراها كالتي في "عصاه". وهذا القولُ يفسُد بما ذكرناه من الدلالة بأنّه اسمٌ مضمرٌ، ولو كان اسمًا ظاهرًا، وألفُه كألِف "عَصا"، و"مَغْرى" وما أشبهَهما ممّا يُحكَم في حروفِ العلّة منه بالنصب، لثبتتِ الألفُ في "إيّا" في حال الرفع والجرّ كما كانت في "عصا" كذلك. وليس كذلك، بل ثبتت في موضع النصب دون الموضعَيْن، فبَانَ أن "إيا" ليس كـ "عصا" و"مَغْزَّى"، لكنّه نفسَه في موضع نصب، كما أن الكاف في "رأيتُك" في موضع نصب، و"أنْتَ"، و"هُوَ" في موضع رفع.

وذهب بعضُهم إلى أن "إياك" بكَمالها اسمٌ، حكى ذلك ابن كَيْسانَ. وفيه ضعفٌ


(١) الكتاب ١/ ٢٧٩؛ ولسان العرب ١/ ٤٨٠ (شبب). والشوابّ: جمع شابّة.
(٢) الكتاب ١/ ٢٧٩.
(٣) الكتاب ١/ ٢٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>