للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبُعِثَ عَليْهَا النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لوْ كَانَ أَحَدُكُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، مَا رَضِىَ حَتَّى يُجِدَّهُ، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبكُمْ؟ إِنِّى مُسْتَخِيرٌ رَبِّى ثَلاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلى أَمْرِى. فَلمَّا مَضَى الثَّلَاثُ أَجْمَعَ رَأيَهُ عَلى أَنْ يَنْقُضَها، فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ، أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلمَّا لمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَىْءٌ تَتَابَعُوا، فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلغُوا بِهِ الأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً، فَسَتَّرَ عَليْهَا السُّتُورَ، حَتَّى ارْتَفَعَ بِناؤُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّى سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لوْلا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِى مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّى عَلى بِنَائِهِ، لكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلجَعَلتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ ".

ــ

وليس فى قوله - عليه السلام -: " ليس عندى من النفقة ما يقوينى به على بنائه "، وبين قوله فى الحديث الآخر: " لأنفقت كنز الكعبة فى سبيل الله " تنافر؛ إذ قد يمكن أنه - عليه السلام - لم يرد إنفاق كنز الكعبة فى بنائها الذى هو فى سبيل الله ولا غيره؛ لئلا تتقول قريش فى ذلك وتنكره كما تنكر البناء للكعبة؛ لعادتها فى تعظيم تغيير ذلك وتناول شىء من مالها، وإنما كان - عليه السلام - أراد استئلافهم وتسكين الأمور وتركها حتى يتمكن الإيمان فى قلوبهم؛ ولذلك - والله أعلم - لم يغير حجابة البيت ولا أخرجها عمن كانت بيده، وقد طلبها له آله، وقد كان عمر - رضى الله عنه - هَمَّ بقسمة مال الكعبة فخالفه بعض الصحابة فى ذلك، واحتجوا عليه بأن صاحبيه لم يفعلا فوقف عن ذلك، وقال له أُبى: إن الله قد بيّن موضع كل مال، ولأن فى إبقاء مالها وحليتها ترهيباً على العدو وإظهاراً للإسلام.

وفى هذا الخبر من الفقه أن الأوقاف لا تصرف غير مصارفها. وفى تجويز النبى - عليه السلام - لفعله لولا مراعاة كفار قريش، دليل على جواز نقل ما جعل فى سبيل [من سبل] (١) الله إلى سبيل آخر، وهى إحدى الروايتين عندنا.

وقول ابن عباس: " قد فرق لى فيها رأى ": أى كشف وبين، قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} (٢): فصلناه وأحكمناه.


(١) سقط من الأصل، واستدرك بالهامش بسهم.
(٢) الإسراء: ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>