الحديث. فقال: فأغرى غائباً. ولا تكاد العرب تغرى إلا الشاهد. يقولون: عليك زيدًا ودونك عمراً وعندك، ولا يقولون: عليه، إلا فى هذا الحديث.
وكذلك كلام سيبويه ومن بعده من أئمة هذا البيان فى هذا الباب، قالوا: وإنما يؤمر بمثل هذا الحاضر والخاطب، ولا يجوز: دونه زيدًا، ولا عليه عمرًا، وأنت تريد غير المخاطب لأنه ليس بفعل. ولا تصرف يصرفه، ولئلا يشبهوا ما لم يوجد من أمثلة الفعل بالفعل، وإنما جاز فى الحاضر لما فيه من معنى الفعل ودلالة الحال، ولأنك فى الأمر للغائب تحتاج له فعلاً آخر، كأنك قلت لحاضر: قل له أو أبلغه ليضرب زيدًا. فضعف عندهم ما يدخله من الالتباس فى أمر واحد أن يضمر فيه فعلين لشيئين. ولأنه ليس للمخاطب فعل ظاهر ولا مضمر عليه دلالة بأنك أمرته بتبليغ ذلك الغائب؛ ولأن هذه الكلمات وأخواتها ليست بأفعال، ولا تصرفت تصرفاتها، وإنما هى بمنزلة الأسماء المفردة، سميت بها الأفعال للإغراء والتحذير، فهى فى الحاضر تدل على الفعل. واستغنى بها عن إظهار الفعل، كما قد يستغنى أحياناً فى مجرد الأمر والنهى باسم المأمور به والمنهى عنه بدلالة الأحوال كقوله: لمن شام سيفاً، أو رفع سوطًا زيدًا، فأغنت الحال عن قولك: اضرب. ومثله: الطريق الطريق، الصبى الصبى، والأسد الأسد. أغنت الحال عن قوله: احذر، أو افسح، أو اتق.
وكذلك إذا تشكى رجل من اهتضام، فتقول: عليك الأمير، أو دونك القاضى، دل ذلك على المراد. واستغنيت بهذا عن قولك: اشك، أو الزم.
جاء من هذا كله، أن الإغراء والتحذير والأمر والنهى بهذه الكلمات، إنما هو للحاضر لما فيها من معنى الفعل الدال عليه الحال. فأما الغائب فلا يوجد ذلك فيه؛ لعدم حضوره، ومعرفته بالحالة الدالة على المراد، وعدم سماعه لهذه الأوامر، لكنه يغرى به، كما يغرى بالحاضر لا أنه يغرى هو كما يغرى الحاضر؛ لأن الإغراء والتحذير يصح فى الحاضر لمن يغرى به، أو يحذر منه من غائب وحاضر، كما تقدم.
الغلط الثانى: عدَّ (١) جميعهم من هذا قولهم: عليه رجلاً ليْسنى. وإن هذا من إغراء الغائب. قال سيبويه: وهذا قليل، شبهوه بالفعل. وقال السّيرافى: وإنما أمر الغائب بهذا الحرف على شذوذ؛ لأنه قد جرى للمأمور ذكره، فصار كالحاضر، واشتبه أمره أمر الحاضر.