وجواب الجمهور من أصحابنا عن هذا: أن يقولوا: أما الرد للتمر عن اللبن فإنما ذلك لأنه قوت بلدهم حينئذ، وكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أن اللبن كانوا يريدونه للقوت، وهذا يحل محله، وهو أصل كسبهم للقوت، فقضى به، وإن كان عيش بعض البلاد غيره من الطعام قضى بالغالب من عيشهم. وقد روى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ابتاع محفلة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها ردها مثل أو مثلى لبنها قمحًا " (١).
وقد ذكر مسلم هاهنا: " صاعًا من طعام لا سمراء ". وهذا يدل على ما قلناه من مراعاة حال قوت أهل البلد.
وأما اقتصاره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصاع مع اختلاف لبن الشاة والناقة، واختلاف لبن النوق فى نفسها، مع أنه لا يصح أن يلزم المتلف للكثير مثل ما يلزم المتلف اليسير، فقال بعض أهل العلم: إنما ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يكون ذلك حداً يرجع إليه؛ ليرتفع الخصام ويزول التنازع والتشاجر.
وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصًا على رفع التشاجر عن أمته، وهذا كما قضى فى الجنين بالغرة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى، مع اختلافهما فى الديات؛ لأن هذه المواضع لما كان يتعزر ضبطها عند البينات كثر التنازع فيها، فرفعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن جعل القضاء فى ذلك واحدًا. وقد مر أبو يوسف وابن أبى ليلى على مقتضى القياس وقالا: يرد قيمة اللبن وحملا الحديث على أنه وقع بحكم الاتفاق لكون القيمة وقت قضائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك صاع من تمر.
وقد قال بعض أهل العلم: إذا علا الصاع حتى صار يستبشع القضاء به عوض اللبن؛ لكونه مقاربًا بالقيمة الشاة كلها، فإنه حينئذ لا يقضى، وإن عزم المشترى قيمة أعلى ما يرى أنه كان فيها من اللبن، لم يكن عليه أكثر من ذلك. واستلوح هؤلاء أن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قضى بصاع واحدٍ فى لبن الشاة والناقة مع اختلافهما؛ لأنه وإن قل لبن الشاة فهو أجود، وإن كثر لبن الناقة فهو أدنى، فصارا بهذا كالمتساويين، فلا يكون فى هذا حجة للأولين الذين جعلوا القضية بالصاع ضربة لازب.
وأما رد عوض اللبن مع كون الخراج بالضمان، وأن المشترى لا يرد الغلة إذا رد بالعيب؛ فلأن المصراة كان فيها لبن حين البيع، ولم تكن غلة حينئذ فتكون للمشترى، بل هو على ملك البائع كأحد أعضاء الشاة، فردها إذا رد بالعيب واجب قلنا: استحال رده بعينه كاختلاطه بما يحدث عند المشترى، وجب أن يرد العوض عنه ويصير كالفائت،