العالم جملة كان ذلك إضراراً عظيماً وكلهن محلل، فلا يغلب حكم محرمة واحدة على مائتى ألوفٍ محللات، ولو اختلطت هذه الرضيعة بنساء محصورات لنهى عن التزوج منهن؛ لأن الشك ههنا له مستند وهو العلم بأن هناك رضيعة وقد شك فى عينها، وله قدرة على تحصيل غرضه، مع القطع بسلامته من الوقوع فى الحرام بأن يتزوج من نساء قوم آخرين، وليس من الحرام فى الدين أن يكون له طريقان فى تحصيل غرضه: أحدهما: محلل هو أسهل وأكثر، فإن وقع فيه قطع على عين التحليل. والطريقة الأخرى، أقل وأندر وإن وقع فيه خاف أن يقع فى عين الحرام، فيعدل عن المتحلل بما يجوز أن يكون محرماً. وبهذا فارقت هذه المسألة التى قبلها؛ لأنه متى اختلطت بنساء العالم لم يقدر على تحصيل غرضه بطريق أخرى، فوجب ألا يكون للشك تأثير، وإنما أريتك بهذه المسألة طريقة تسلكها، وإلا فمسائل هذا النوع لا تحصى كثرة، ولكن أصول جميعها لا تنفك عن الأصول التى مهدت لها، وقد يقل الضرر بالتحريم فى بعض المسائل ويعظم فى أخرى، ويتضح كون الشك له مستند فى بعض المسائل وتخفى فى أخرى، [وقد تكثر أصول بعض المسائل، وقد تتضح مساواة الفرع للأصل وقد تخفى](١).
ومن مجموع هذا كله واختلاف نظر الفقهاء فيه يقع به بينهم التنازع والاختلاف. من ذلك مسائل الشاك فى عدد الطلاق، والشاك هل حنث فى يمينه أم لا؟ والشاك فى زوجته هل هى تحبه أم لا؟ وقد حلف على أنها تحبه والشك فى الإناءين أيهما النجس؟ والشاك هل أصاب ثوبه نجاسة أم لا؟ والشاك فى موضعها مع علمه بإصابتها ثوبه. إلى غير ذلك من المسائل التى كثر اضطراب العلماء فيها، وطريقتهم فيها هى التى نبهناك عليها.
وأنت إذا أحطت بهذه الطريقة علماً أغنتك عن اضطراب الفقهاء - أيضًا - فى هذا الحديث، هل المشتبهات المذكورات فيه واجب اجتنابها؟ وهل قوله:" من وقع فى الشبهات وقع فى الحرام " دلالة على أن اجتنابها واجب، أم يكون المراد أنه قد يقع فى الحرام لقوله بعد ذلك:" كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه "، ولم يقل:" يرتع فيه "، فلابد مع وضعه إياها جاز اجتنابها استبراء للدين والعرض، والاستبراء يشير إلى أنها ليست بنفس الحرام الذى يجب أن يجتنب؛ لأن هذه المسائل التى نصصنا على بعضها، وأشرنا إلى بقيتها تختلف طرق الاشتباه فيها على ما أشرنا إليه به، فقد يقتضى بعضها التحريم وأن الاجتناب واجب، وقد تدق طرق الاشتباه وتضعف فيكون الاجتناب حينئذ مستحبًا غير واجب، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بلفظ دال على استحباب التوقى. ولا شك أن استحسان التوقى يعم جميعها ما لم تكن من الشكوك الفاسدة التى أشرنا إليها.