للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٩٢ - (...) حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِىُّ وَأَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِىُّ، جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ - وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ - أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ البَيْتِ، صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَها فَيُقِيمَ بِهَا ثَلاثًا، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ - السَّيْفِ وَقِرَابِهِ - وَلا يَخْرُجَ

ــ

إن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (١) ناسخ للهدنة بيننا وبينهم، وقال فى أهل الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة} (٢)، فيه نفى حكم الهدنة معهم. وقال ابن زيد: نسخت كلها بسورة براءة، ونفذ النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كل ذى عهد عهده، وأن يقتلوا حيث وجدوا، ويقتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ونحوه لقتادة. وقيل: إنما فعل النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك مع الضرورة وضعف الإيمان ورجاء الصلاح لهم.

فيه - كما تقدم - أنه إنما ردهم لأبائهم وعشائرهم وأمن إهلاكهم وقتلهم لعطفهم عليهم، ليس فى ذلك إلا إمساكهم وخوف الفتنة عليهم، وقد عزرنا الله - سبحانه - وأباح لنا التقية بإظهار كلمة الكفر مع إضمار الإيمان، فلم يكن فى ردهم إهلاكهم، ولا ردهم من الإيمان إلى الكفر (٣). وقد جاء فى الحديث ما دل على ثقة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاح حالهم وسلامتهم بقوله: " سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ". وأما إمساكهم من صار إليهم منا فلا إشكال فيه لأنه كافر مثلهم، وقد بينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " ومن ذهب منا إليهم فابعده الله ".

وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى - رضى الله عنه - لما أمره يمحو " رسول الله " فقال: لا، والله لا أمحاها: " أرنى مكانها " فأراه فمحاها، وكتب، لم يكن من على - رضى الله عنه - خلافاً لأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن أدباً أن يمحى وصفه الكريم من النبوة، ومساعدة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين فى ذلك غير ضار؛ إذ علم قيام الحجة عليهم بذلك فيما يكتبونه على أنفسهم من ذلك، وأنه كالإقرار والاعتراف، ومثل هذا إذا احتيج إليه للضرورة صنع، إذا لا يلزم من لا يعتقد شيئاً أن يقوله.

ومثله منعهم - فيما ذكره مسلم - بعد لما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فى ذلك، وأنهم لا يعرفون ما الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: " باسمك اللهم "، فساعدهم النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك؛ رغبة فى تمام الصلح، الذى أثمر بعد ذلك الظهور التام والغلبة، ومعنى التسميتين واحد؛ لأنه راجع كله إلى اسم الله - سبحانه. وقد تقدم


(١) التوبة: ٥.
(٢) التوبة: ٢٩.
(٣) ولا تكون التقية فى كل موضع وحال حيث ذكر الجصاص - رحمه الله - ونبه إلى مذهب ابن أبى ليلى فى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوكُم أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: ١]، فى أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية فى إظهار الكفر. انظر: أحكام القرآن للجصاص ٣/ ٤٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>