ومذهب الشافعى: التجافى عن ذى الهيئة الغير متهم، الفاعل ذلك بجهالة، ويحتج فى مثل هذه الصورة بحديث حاطب. ولعل من أمر بقتله من أصحابنا رآه كالمحارب الذى طال أمره، وأراق الدماء لعظيم ضرر هذا بالمسلمين، فيقتل إلا أن يتوب. ومن لم تثبت التوبة له رآه كالزنديق والساحر، لما كانا مصرين لفعلهما لم يقبل توبتهما، وكذلك هذا لما كان مصراً لفعله ومن يره بالمحارب؛ لأنه لم يباشر الفعل، وإنما صار كالمغرى بذلك، أو الاَمر به من لا يلزمه طاعته فلا يستوجب القتل.
ومن فرق بين المعتاد وغيره رأى أن باعتياده يعظم جرمه، ويشتد ضرره، فيحسن قياسه على المحارب وإذا كانت منه الغلبة لم يحسن قياسها على المحارب؛ وتجافى الشافعى عن ذى الهيئة الغير متهم أخذاً بظاهر حديث حاطب؛ ولأن الاجتهاد إذا أدى إلى إقالة عثرة مثل هذا لم يكن تضييعاً ولا تفريطاً.
ولما رأى مالك تفاوت الجرم بتفاوت أحوال ما يجنى من ثمرته لم يمكنه تعيين حد فيه، وصرفه للاجتهاد على حسب ما حكيناه عنه.
هذا وجه اختلاف هذه الأقوال، والذى يظهر لى أن حديث حاطب لا يستقل حجة فيما نحن فيه؛ لأنه اعتذر عن نفسه بالعذر الذى ذكر، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ["صدق "، فقطع على تصديق حاطب لتصديق النبى - عليه الصلاة والسلام - له] (١)، وغيره من يتجسس لا يقطع على سلامة باطنه، ولا يتيقن صدقه فيما يعتذر به، فصار ما وقع فى الحديث قصة مقصورة لا تجرى فيما سواها، إذ لم يعلم الصدق فيه كما علم فيها، ويتنزل هذا عندى منزلة ما قاله العلماء من أهل الأصول فى الحكم إذا كان معللاً بعلة معينة؛ فإنه لا يقاس عليه لتعليله - عليه الصلاة والسلام - فى المحرم، فإنه يحشر ملبياً، إلى غير ذلك مما ذكرناه فى موضعه مما تقدم فى هذا الكتاب.
ولو كان من اطلع على تجسسه كافرًا، فإن كان ذميًّا علم أنه عين لهم مكاتبهم بأمر المسلمين انتقض عهده. وقال سحنون: يقتل ليكون نكالاً. وإن كان حربيًّا نزل بأمان سقط ما كان له من الأمان، وللإمام قتله أو استرقاقه. قال سحنون: ولا يخير فيه إلا أن يسلم، ولا يقتل ويبقى كأسير أسلم.