للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ ". قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى، يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا. فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ".

ــ

وقوله: فى المفلس: " هو الذى يأتى بصلاة وصيام وزكاة، وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا " الحديث، يعنى: أن هذا هو حقيقة المفلس خاصة؛ لأنه فى استعمال الناس فيمن قل ماله وعدمه حتى صار فلوسًا، وهذا لمن ينقطع وقد تنقلت به الحال، ويرجو الانجبار لحاله، وإذا بقيت له صحته وسلم له دينه لم يهلك فى الدنيا ولا فى الآخرة. فأعلمهم أن حقيقة المفلس هو الهلاك التام والعدم المتصل المهلك، مثل هذا الذى كانت له حسنات وللناس عليه تباعات، فأخذوا حسناته كما يؤخذ من الغريم ما بيده، ثم لما لم يكن (١) له حسنات طرحت عليه سيئاتهم، وطرح فى النار؛ ليتم هلاكه وتأبد فلسه، وأيس من فلاحه وانجبار حاله، إلا ما يكون بعد، مما تفضل الله به من إخراج المذنبين وإدخالهم الجنة، بعد الأمر الذى قدره الله فى هذا البوار، نعوذ بالله من فلس الدنيا والآخرة.

وقد ردت المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: يعارضه قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (٢)، وقد غلطوا فى النظر والتأويل، وهذا إنما عوقب بوزره وظلمه أخاه ولا حبط عمله، كما احتجت به المعتزلة لمذهبها، لكنه سقطت حسناته لما قوبلت سيئاته ومظالمه وزادت عليها فى الوزر (٣)، واستوجب العقوبة بما زاد وكان ثواب حسناته الساقطة فى الوزن للمظلوم ثوابًا على صبره ومحنته به، [و] (٤) فضلاً زاده الله من عنده. وإنما عوقب بما اجترح وعلى وزره، ولم يظلم، ولا أخذ شىء من عمله، ولا أحبط إلا بحكم الموازنة والمحاسبة، ورجحان السيئات، قال الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (٥).

فمعنى أخذ الحسنات وطرح السيئات نوع من العقوبات التى أعدها الله للظالمين، وزيادة فى ثواب المظلومين الصابرين، لا أنه مؤاخذ بذنب لم يعمله من ذنوب غيره، ولا أُحبطت حسناته لسيئاته، ولا دفعت لغيره، بل زيد المظلوم على أجره مثل ثواب حسنات ظالمه،


(١) فى ح: تكن.
(٢) الإسراء: ١٥.
(٣) فى ح: الذنوب.
(٤) فى هامش ز.
(٥) المؤمنون: ١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>