للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

" ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه " ولا شىء من خلقه إلا ورؤية الله تنتهى إليه (١)، فكأنه قال: لو كشفها لاحترق جميع الخلق. وقال النضر بن شُمَيْلِ: معنى " سُبُحاتِ وجهه " كأنه ينزهِهُ يقول: سبحان وجهه، وقد يقال على مذهب من تأوَّل من المتصوفة: حُجُبُ النور تحجُبُ العُلومَ التى لم تبلغ الحقيقة، وصدَّها عن المعرفة الحقيقية لشغل الفكر وتشويش العقل بها، فلو كشفها عن المخلوقين وأزاحها عنهم وظهرت المعارف والأنوار التى من وجه الحقيقة وجهَة الحقّ لأَحرَقتهم ولأهلكتهم، ولم يحتملها ضَعْفُ تركيبهم، كما قال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (٢)، ولكنه يقال: إنما يكشف منها اليسير بقدر احتمال قواهم الضعيفة، حتى إذا شاء الله وقواها وربط على قلوبهم احتملوا رؤيته، ومشاهدة عجائب ملكوته، وعظيم عظمته، وقدرته، وجلال سُلطانه وبهائه، ويدل على صحته ما أشرنا إليه قوله فى الحديث الآخر: " فلا يسمع حسن ذلك أحد لا يربط على قلبه إلا خلع أفئدته " وفى الحديث الآخر: " إلا زهقت نفسه ".

وأعلم أن فى ذكر الحجاب هنا والحجب، وتكثيرها فى غير هذا الحديث من النور والنار والظلمة والماء مما جاء فى أحاديث أخر، تنبيه لأولى الألباب على أن الحُجُبَ ليست حجباً لأنفسها ووجودها، وإنما حجبت الخلق عن ذلك فِعلُ الله وإرادتُه ومشيئته وقدَرُه، لأنه حجَب بالأشياء (٣) وأضدادها من النور والظلمة والماء والنار، وهذا مذهب أهل الحق؛ أن الرؤية والإدراك فعلُ الله وخلقُه فى المدرِك للشىء ولا يشترطون فى المرئى والمدْرك سوى وجوده إلا من حيث مجرى العادة، خلافاً للفلاسفة ومن اقتفى آثارها من ضُلال المعتزلة؛ لاشتراطهم فى الرؤية رفع الموانع من الحجب الثخينة والقرب والبُعْدِ المفرطين واشتراطِهِم اتصال الأشعَّةِ ومقابلة المرئى، وافتقار الإدراك لبنية مخصوصة - وهى العين - وهذه الدعاوى حَمَلتْهم على نفى رؤية العباد لله أصلاً وساقت بعضهم إلى أن الله تعالى لا يرى ولا يُرى، تعالى الله عن قولهم، فأبان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حَجْبَ الله لأبصار خلقه بمشيئته وخلقه، لا أنه يحجُبه شىءٌ وأن النور الذى هو فى العادة سبب الإدراك والموجب للرؤية يحجُب بمشيئته عنه العباد كما يحجُبهم ضدّه من الظلمة، وكذلك الماء بشفوفه ورقته، والنار بضوئها.

وقد أشار بعضهم أن قوله: " حجابه النور " إشارة إلى معرفة العارفين بأنه لا كيفية له ولا مثل، وأنه ليس كمثله شىء، فحَجَبَتْ هذه المعرفةُ - وهى النور - قلوبَ العارفين


(١) ذهب المتكلمون فى هذه القضية ثلاث فرق: الأولى تقول: إن لله وجهاً هو هو، وهذا قول أبى الهذيل.
والثانية تقول: إن المراد بالوجه هو الذات؛ لأن العرب تقيم الوجه مقام الشىء فيقول القائل: لولا وجهك لم أفعل، أى لولا أنت لم أفعل، وهذا قول النظام وأكثر معتزلة البصريين وقول معتزلة البغداديين.
والثالثة: ينكرون ذكر الوجه فى غير تلاوة القرآن، والقائلون بهذه المقالة هم العباديَّة أصحاب عبَّاد. راجع: مقالات الإسلاميين ١٨٩.
(٢) الأعراف: ١٤٣.
(٣) فى ت: عن الأشياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>