للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الكذب العمدُ، وهذه وإن لم تكن كذبات حقيقةٌ فهى فى صورة الكذبات، وهى عند المخبَر بها خلاف ما اعتقده المخبر، ألا ترى الحديث الآخر: " لا يحلُ الكذبُ إلا فى ثلاث ". فسُمى ذلك كذباً، وإنما هو من باب المعاريض، ألا ترى الحديث الآخر: " كان النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها "، فهذا ومثله كذبات (١) الحرب، وكذلك أخواتُها والمعاريض جائزة عند الضرورات، وفيها مندوحةٌ عن الكذب، وقد فعلها كثير من السلف وأجازها، لكن أشفق إبراهيمُ - عليه السلام - من المؤاخذة بها على ما قدمناه، وقد يضطر إلى الكذب بالحقيقة ولا تتفق فيه معاريض عند دفع مظلمة عظيمة أو رفع مَضَرَّةٍ أو معصيةٍ بذلك، فالكاذب هنا - وإن كان كاذباً - فغير آثم ولا مؤاخَذٍ، بل مأجور محمود، وقصة إبراهيم وسارة من هذا الباب، وكذلك قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} (٢) على أحد التأويلات، على ما سنذكره فى موضعه (٣).

وقوله فى موسى: " الذى كلمه الله تكليماً ": لا خلاف بين أهل السنة فى حَمْل هذا على ظاهره وحقيقته (٤) لتأكيده بالمصدر (٥)، وأن لله كلاماً هو صفة من صفاته لا يُشبه كلامَ غيره.

وقوله فى عيسى: " روح الله وكلمته ": تقدم الكلام عليه أول الكتاب. وقول كل واحد: " لستُ بصاحب ذلك، ولستُ لها، ولستُ هناكم ": تواضعاً وإكباراً لما سُئلهُ، وقد يكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له، بل لغيره، ودلَّ كل واحد منهم على الآخر حتى انتهى الأمرُ إلى صاحبه بدليل قوله: " أنا لها "، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَيَّناً، ويكون إحالة كل واحدٍ منهم على الآخر على تدريج الشفاعة فى ذلك إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفيه تقديم ذوى الأسنان والآباء على الأبناء فى الأمور التى لها بالٌ، وعلى هذا جاء تدريج سؤال الأنبياء فى هذا الحديث ومبادَرةِ النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك وإجابته لرغبتهم لما حققه - عليه السلام - من أن هذه الكرامةِ والمقاولة خاصة كما وعَدهُ بها ربُّه.

وما ذُكِر فى هذا الحديث من غضب الله وشدته فى هذا الموقف، وأنه لم يغضب غضباً قبله مثله - فهو فى حق الله تعالى ما يظهر من انتقامه ممن عصاهُ وخالف أمرَه، ويُريهم من أليم عذابِه، لا أنه تبارك وتعالى تتغيَّرُ له حال فى الغضب ولا فى الرضى (٦).


(١) فى الأصل: كذب.
(٢) الصافات: ٨٩.
(٣) وفى هذا من العلم - والله أعلم - أن مثل هذا الموقف لا يصلح له إلا النقى الخالص من جميع الوجوه، من كل شائبة - وإن دقَّت - وأن هذا لم يتفق لغير نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٤) فكلام الله عندهم كلام نفسى قائم بذات المتكلم ليس بصوت، ولا حرفٍ، ومن نفى عن الله الكلام من سائر الفرق فبزعم أن الكلام ليس إلا اللفظى، وامتنع الإسكافى وعباد بن سليمان من المعتزلة من إثباته للمولى جل جلاله قائلين: لو ثبته متكلماً لثبته متفعلاً.
وعلى هذا، فالبارى عند أهل السنة متكلمٌ بكلام نفسى، ليس بصوت، ولا حرف، قائم بذاته تعالى كقيام العلم، وغيره من الصفات. راجع: مقالات الإسلاميين ١٨٥، إكمال الإكمال ١/ ٣٥٧.
(٥) لأن التأكيد بالمصدر يرفع الشك والاحتمال.
(٦) مثل هذا ينبغى أن نُقرَّه على ما هو عليه، كما قال الزهرى - رحمه الله تعالى - ومالك فى آيات الصفات، إذ أن الوقوف عند ألفاظها يقلل ويضعف من هيتها وجلالها. الإكمال ١/ ٣٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>