"أسْتَفْهِمُ"، وواوُ العطف نائبة عن "عطفتُ"، وكذلك سائرُ الحروف؟
وإذا كانت الحروفُ إنما جيء بها للإيجاز والاختصار، فلو ذهبتَ تحذف منها شيئًا، لكان اختصارَ المختصر، وهو إجحاف. فلذلك كان الغالبُ على "مُنْذُ" الحرفيةَ، والغالبُ على "مُذ" الاسميّةَ. فإذا كانت حرفًا، كان ما بعدها مخفوضًا، وكانت بمعنى الزمان الحاضر، نحوَ قولك:"ما رأيتُه مُذُ الساعةِ"، أي: في هذه الساعة الحاضرة، وكذلك "مُنْذُ الشهرِ"، و"منذُ العامِ"، كلُه بمعنى الحاضر. فـ "مُنْذُ" أوصلتْ معنى الفعل إلى ما بعدها من الزمان. ومثلُه:"مُذْ كَمْ سرتَ؟ " فـ"مُذْ" أوصلتُ معنَى "سرت" إلى "كَمْ"، كما كانت الباءُ كذلك في قولك:"بمن تَمُرُّ؟ " وتقول: "ما رأيتُه مُذ اليومِ إلى ساعتك هذه"، جعلتَ "اليوم" أوّلَ غايتِك، فأُجْريتْ في بابها كما جرتْ "مِنْ" إذا قلت: "مِن مكانِ كذا". وتقول:"ما رأيتُه مُذْ يومَيْن"، جعلتهما غايةَ ابتدائها.
وإذا كانت اسمًا فلها معنيان:
أحدُهما: أن تكون بمعنى الأمَد، فتنظِم أوّلَ الوقت إلى آخره.
والآخَرُ: أن تكون بمعنَى أولِ الوقت. مثالُ الوجه الأول قولُك:"ما رأيتُه مذ يومان"، و"منذ ليلتان "، والمعنى: أمدُ ذلك يومان وليلتان، والنكرةُ ممّا يختصّ بهذا الضرب؛ لأن الغرض عدة المُدّة التي انقطعت فيها الرؤيةُ. وذلك أنّها وقعتْ جوابًا عن "كم مدةُ انقطاعِ الرؤية؟ " أو "مذ كم يومًا لم تَرَه؟ " فوجب أن يكون الجوابُ عددًا؛ لأنّ "كَمْ" عَدَدٌ، والجوابُ ينبغي أن يكون مطابقًا للسؤال، ولا يلزم تخصيصُ الوقت وتعيينُه. فإن أتيتَ بمعرفةِ تشتمِل على عددٍ، جاز ولم يمتنِع، نحوَ قولك:"لم أرَه مذ المحرمُ" ومذ الشتاءُ"؛ لاشتمالهما على مدة معدودة، كأنك قلت: "لم أره مذ ثلاثون يومًا، ومذ ثلاثةُ أشهرٍ"؛ لأن تعريفه لم يُخْرِجه عن إفادة العدد، فقد وفيتَ بجوابِ "كَمْ" وزيادة.
وأما الوجه الآخر: فيُذكَر فيه ابتداءُ الوقت على جهة التعريف، كقولك: "ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة"، والمعنى: ابتداءُ ذلك يومُ الجمعة، وأوّلُ ذلك يومُ الجمعة. وهذا الوجهُ الثاني لا يجوز فيه إلَّا التوقيتُ والإشارة إلى وقتِ بعينه. وذلك أنّ جميعَ ذلك جوابُ كلام، كأنّه لما قال: "لم أرَك"، قال: "كم مدّةُ ذلك؟ " و"ما أوّلُ ذلك؟ " فجوابُ الأول العددُ، وما له مقدار معلوم من الزمان على ما ذُكر. وجوابُ الثاني، وهو "ما أوّلُ ذلك؟ " و"ما ابتداءُ ذلك؟ " أن تذكر له أوقاتًا معلومة، نحوَ: "يومُ كذا"، و"سنةُ كذا". والمرادُ: ما رأيتُه مذ ذلك الوقت إلى وقتي هذا، إلَّا أنّك تركتَ ذِكْرَ منتهَى الغاية للعِلْم به، إذ لو كان وقعت رؤيتُه بعدُ، ولم تكن الرؤيةُ انقطعتْ من الوقت الذي ذكره، لكان الإخبار غيرَ صحيح.
واعلم أنّك إذا رفعتَ ما بعد "مُذْ"، فالكلامُ مبتدأ وخبر، فـ "مُذ" أبتداء، وما بعده