للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الخبرُ؛ لأن "مُذْ" واقعة موقعَ "الأمَد"، كأنّك قلت: "أمدُ ذلك يومان"، أو"أوَّلُ أمدِه يومُ الجمعة"، فكما يكون الأمدُ مبتدأ، فكذلك ما وقع موقعَه. وقال بعضهم: "يومان" هو المبتدأ، و"مُذ" الخبر، وتُقدر "مُذْ" تقديرَ ظرف المكان، كأنّه قال: "بيني وبينه يومان". والأوّلُ أظهرُ، فالكلامُ إذا رفعتَ ما بعد "مُذْ" جملتان، وإذا خفضتَ وقلت: "مذ يومَيْن"، فالكلامُ جملة واحدة.

وذهب الفرّاء إلى أنّ "مُنْذُ" مركبة من "مِنْ"، و"ذُو"، فحذفوا الواو تخفيفًا وما بعدها من صلة الذال، وقال غيره: هي مركّبة من "مِنْ" و"إذْ"، فحُذفت الهمزة تخفيفًا، وغُيرت بضمّ أوّلها، وحُرّكت الذال لسكونها، وسكونِ النون قبلها، وضُمتْ إتباعًا لضمة الميم. وهذه دَعاوَى لا دليلَ عليها، والأصلُ عدمُ التركيب.

وقد ذهب بعضُ أصحابنا (١) إلى أن "مُذْ" و"مُنْذُ" اسمان على كل حال، فإذا رفعتَ ما بعدهما، فعلى الابتداء والخبر على ما سبق، وإذا خفضت ما بعدهما، فعلى تقديرِ اسمين مضافين، وإن كانا مبنيين، كقولك: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (٢) أضفتَ "لدن" إلى "حكيم"، وإن كان مبنيًّا.

ومثلُه في خفضِ ما بعده ورفعِه "كَمْ". تقول: "كم رجل جاءني؟ " فيكون بمنزلةِ عدد مضاف، وتقول: "كم دراهمُك؟ " فيكون في موضع مبتدأ، وما بعده الخبرُ. وهو قول متين، إلا أن الجواب عنه أن "مُذْ" و"مُنْذُ" لابتداء الغَاية في الزمان، فهي نظيرةُ "مِنْ" في المكان، فكما أتى "مِنْ" حرفٌ، فكذلك ما هو في معناه.

فإن قيل: فلِمَ بُنيت "منذ" و"مذ"؟ قيل: أما إذا كانت حرفًا، فلا كلامَ في بنائها، إذ الحروفُ كلها مبنيّة، وإذا كانت اسمًا، فهي مبنية أيضًا؛ لأنّها اسم في معنى الحرف، فكان مبنيا كـ"مَنْ" و"مَا" إذا كانا استفهامًا، أو جزاءً، وحقهما السكون؛ لأن أصل البناء على السكون. وإنما حُركت "مُنْذُ"، لكون النون قبلها ساكنةً، وضُمّت إتباعًا لضم الميم، إذ النونُ خفية، لأنها غُنَّة في الخَيْشوم ساكنةٌ، فكانت حاجزًا غيرَ حصين. ولو بنوها على الكسر بمقتضى التقاء الساكنين، لَخرجوا من ضم إلى كسر، وذلك قليلٌ في كلامهم.

ومثلُه في الإتباع قولُهم: "مُنْتُن"، فمنهم من يضم التاء إتباعًا لضمة الميم، ومنهم من يقول: "مِنْتِنٌ"، بكسر الميم إتباعًا لكسرة التاء، إذ النونُ لخَفائها وكونِها غنةً في الخيشوم حاجر غيرُ حصين. وأمّا "مُذْ" فساكنةٌ, لأنه لم يلتق في آخِرها ما يوجب لها الحركةَ، فإن لَقِيَها ساكن بعدها، ضُمّت لالتقاء الساكنين، نحوَ: "مُذُ اليومُ"، و"مُذُ


(١) انظر المسألة السادسة والخمسين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" ص ٣٨٢ - ٣٩٣.
(٢) النمل:٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>