للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والذي يدل على إرادةِ "مِنْ" أن "أخفى" لا ينصرف، كما لا ينصرف "آخَرُ" من قولك: "مررت برجلٍ آخرَ"، إذا أردت "مِنْ" معه، وإن لم تذكره، وهذا الحذف يكثر في الخبر، ويقل في الصفة، وذلك من قبل أن الغرض من الخبر إنّما هو الفائدة، وقد يُكتفى في حصولها بقرينةٍ.

فأمّا الصفة فإنّها في الكلام على ضربَيْن: إمّا التخليص والتخصيص، وإمّا المدح والثناء، وكلاهما من مَقامات الإسهاب والإطناب، لا من مَظان الإيجاز والاختصار، وإذا كان كذلك لم يَلِق الحذفُ بها. ومن ذلك "أَوَّلُ" من قولك: "ما رأيتُه مذ عام أوّلُ"، أي: "أوّلُ من هذا العام"، فـ "أوّلُ" وصفٌ على زنة "أَفْعَلَ" فاؤه وعينه واوٌ، ولم يستعملوا منه فعلاً. والذي يدل على ما قلناه قولهم في المؤنث: "أُولَى"، والأصل: "وُولى" بواوَيْن، فقُلبت الأولى التي هي فاء همزة؛ لاجتماع الواوَين على حد "وُقِيَّةٍ"، و"أَواقٍ"، وجمعُ المؤنث "أُوَلُ" على حد "الأَصْغَر"، و"الصُّغْرَى"، و"الصُّغَر"، و"الأكبر"، و"الكبرى"، و"الكبر"، قال الله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (١) فـ "أَوَّلُ" "أَفْعَلُ"، و"أُولَى" "فُعْلَى"، و"أُوَلٌ" "فُعَلٌ"، وهو وإن كان صفة، فإنّهم قد اتسعوا فيه، واستعملوه استعمالَ الأسماء، فقالوا: "مررت بأوّل منه"، ولم يقولوا: "رجلٌ أوّل". ولم يُخْرجه هذا الاتّساعُ عن كونه وصفًا، ألا ترى أن "الأبطح"، و"الأجرع"، وإن كانا قد استُعملا استعمالَ الأسماء حتى يسري إليهما تكسيرُها، فقالوا: "الأباطح"، و"الأجارع"؛ لم يُخْرِجهما ذلك عن الوصفيّة، فلذلك لا ينصرفان كما لم ينصرف نحو "أبيض" و"أصفر"؟

فأمّا رفضهم استعمالَ الفعل منه؛ فلأنّ الفعل يتصرّف بالماضي والمستقبل، والأمر والنهي، فلو استعملوا منه فعلاً، لكان يتكرّر فيه حرف العلّة. وإذا كانوا قد تركوا تصريفَ ما لا يتكرّر فيه هذه الحروف كاستعمال ماضي "يَدَعُ"، ومضارع "عَسَى"، وقالوا: "رجلٌ آبَلُ الناس"، ولم يلفظوا منه بفعل، فإذا جاء هذا النحو من الصحيح غيرَ متصرّف؛ فأن لا يصرّفوا نحو: "أوّل" كان أَوْلى.

وإذا ثبت أنه "أَفْعَلُ" صفةً؛ فالوجهُ أن يكون متصلًا بـ "مِنْ"، كما أنّ سائر ما كان مثله كذلك. فإذا حذفت "مِنْ" وأنت تريده، لم تصرف الاسم؛ لأنّه يكون في حكم الموجود، وإن حذفته -وأنت لا تريده- صرفته، وكان كسائر الأسماء، نحو: "أَفْكَلِ" لأنّه إنّما يكون صفة إذا كان معه "مِنْ". وعلى هذا لو سمّيت رجلًا بـ "أفضل"، كان كـ "أَحْمَر"، فلو نكّرته، لانصرف بلا خلاف، ولا يكون كـ "أحمر" إذا سُمّي به, لأنّه إنّما يكون صفة إذا كان معه "مِنْ" وقد استُعمل "أوّل" الذي هو صفة ظرفًا. قال سيبويه (٢):


(١) المدثر: ٣٥.
(٢) الكتاب ٣/ ٢٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>