للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والوجه الثاني: أن يكون الإتيان منفيًّا، والحديث مُوجَبًا، ويكون فيه عطف جملة على جملة، كأنه قال: "ما تأتيني فأنت تحدّثني على كل حال"، وليس أحدهما متعلِّقًا بالآخر، ولا هو شرطٌ فيه. ومثله قول الشاعر [من الخفيف]:

غير أنا لم ... إلخ

البيت لبعض الحارثيّين، والشاهد فيه قطعُ ما بعد الفاء ورفعُه، ولو أمكنه النصبُ على الجواب، لكان أحسن، فهذا لا يكون إلا على الوجه الثاني، كأنه قال: "فنحن نُرَجي، ونكثِرُ التأميلا"، فهو خبر مبتدأ. ولم يجز الوجه الأوّل؛ لأنْ الأول مَجْزُوم. ومنه قول الآخر وهو جميل بن مَعْمر [من الطويل]:

ألم تسأل الربع ... إلخ

فالشاهد فيه قطعُ "ينطق" ممّا بعده، ورفعُه على الاستئناف، أي: فهو ينطق على كلّ حال. ولا يجوز الوجه الأوّل, لأنّ الفعل الأوّل مجزوم، ولو أمكنه النصبُ، لكان أحسن، لكن القوافي مرفوعة. والقَواء: القَفْر، وجعله ناطقًا للاعتبار، أي: يُجِيب اعتبارًا، لا حِوارًا لدُروسه، وتغيرِه. ثمّ يُراجِع كالمُنكِر على نفسه بأن الربْع لا يجيب حقيقةً، فقال: "وهل يُخْبِرَنْك اليومَ بَيداءُ سَمْلَقُ". والبيداء: القفر، والسملق: التي لا شيء فيها.

قال سيبويه (١): لم يجعل الأول سببًا للآخر، أي: لو أراد ذلك، لَنصب، قال: ولكنّه جعله ينطق على كل حال على ما ذكرنا.

ومثله "إيتِني فأُحَدّثُك" بالرفع، قال الخليل (٢): لم ترد أن تجعل الإتيانَ سببًا للحديث، ولكنّك أردتَ: إِيتني، فإنّني ممّن يحدّثك البتّة جئتَ أو لم تجىء. وتقول: "وَدَّ لو تأتينا وتُحَدِّثَنا" بالنصب والرفع، فالنصبُ على معنى التمنّي, لأنّ معناه: ليتك تأتينا، فتحدّثَنا، فتنصب مع "وددت" كما تنصب مع "لَيْتَ"؛ لأنها في معناها، والرفعُ جيّد أيضًا بالعطف على لفظِ "تأتينا"؛ لأنه مرفوع، ويكون التقدير: وددت لو تأتينا، ووددت لو تحدّثُنا.

ومثله قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (٣)، الثاني مرفوع بالعطف على لفظ الأوّل, لأنه شريكه في معناه. وحكى سيبويه (٤) أنها في بعض المصاحف، "فيدهنوا" بالنصب على معنى التمنّي. وأنشد [من الوافر]:

يعالج عاقرًا ... إلخ


(١) الكتاب ٣/ ٣٧.
(٢) الكتاب ٣/ ٣٦.
(٣) القلم:٩.
(٤) الكتاب ٣/ ٣٦، وفيه: "وزعم هارون (أي: هارون بن موس النحوي البصري) أنها في بعض المصاحف "ودوا لو تدهنوا فيدهنوا".

<<  <  ج: ص:  >  >>