واعلم أن هذه الأفعال لا يجوز إلغاؤها كما جاز فيما نُقلت عنه؛ لأنك إذا قلت:"علمت"، أو"ظننت" ونحوَهما؛ فهي أفعالٌ ليست واصلة، ولا مؤثرة، إنما ذلك شيءٌ وقع في نفسك، لا شيءٌ فعلتَه. وإذا قلت:"أعلمت"، فقد أثرت أثرًا أوقعته في نفس غيرك، ومع ذلك فإن "علمت"، و"ظننت"، من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، فإذا أُلغيت، عاد الكلام إلى أصله من المبتدأ والخبر؛ لأنّ المُلْغَى نظير المحذوف، فلا يجوز أن يُلْغَى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غيرَ تام. وأنت إذا قلت:"زيد طننتُ منطلقٌ" بإلغاء "ظننت"، كان التقدير:"زيد منطلق"، فدخل الظنّ، والكلام تامٌ. ولو أخذتَ تُلْغِي "أعلمت"، و"أرَيتُ"، ونحوَهما في قولك:"أعلمت بِشْرًا خالدًا خيرَ الناس"، لبقي "بشرٌ خالد خيرُ الناس"، وهو كلام غير تامّ ولا منتظم، لأن "زيدًا" يبقى بغير خبر.
واعلم أنه يجوز الاقتصار في هذه الأفعال المتعدّية إلى ثلاثة مفعولين على المفعول الأول، وأن لا يذكر الثاني، ولا الثالث؛ لأنّ المفعول الأول كان فاعلاً في بابِ "علمت" قبل النقل، فكما يجوز الاقتصار على الفاعل في باب "علمت"، كذلك يجوز الاقتصار على المفعول الأول. في باب "أعلمت"، ولا يجوز على الثاني ولا الثالث، كما لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول دون الثاني، وعلى الثاني في باب "علمت"، و"رأيت"، وهذا لا خلاف فيه. والظاهرُ من كلام سيبويه أن لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول (١). والصوابُ ما ذكرناه، ويُحمَل كلام سيبويه على القُبْح، لا على عدم الجواز.
وأما الضرب الثالث، فما كان من الأفعال متعديًا إلى مفعولَين، ثمّ تعدى إلى الظرف، ويجعل الظرف مفعولاَ على سعة الكلام، وقولُك:"أُعطيت عبدَ الله ثوبًا اليومَ"، و"سرق زيد عبدَ الله الثوبَ الليلةَ"، فـ "أعطيت" فعلٌ وفاعلٌ، و"عبد الله" مفعولٌ أولٌ، و"ثوبًا"، مفعول ثان، و"اليوم"، مفعول ثالث لا تجعله ظرفًا، كان الفعل وقع به لا فيه.
وأمّا "سرق زيدٌ عبدَ الله الثوبَ الليلةَ"، فأصله أن يتعدّي إلى مفعول واحد، وهو "الثوب" مَثَلاً، و"عبد الله" منصوب على تقدير حرف الجرّ، والأصل "من عبد الله"، و"الليلةَ" ظرفٌ جُعل مفعولًا على الاتساع.
وأما قوله "ومن النحويين من يأبى الاتساع في الظروف في الأفعال ذات المفعولين"، فذلك من قبل أن الفعل إذا كان لازمًا، وعديته إلى الظرف، نحوَ:"قمت اليومَ"، فتنصب "اليوم" على أنّه مفعول به اتّساعًا، وتُشبهه من الأفعال بما يتعدّي إلى
(١) كلام سيبويه واضح في أنه لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول، ولا على الثاني، ولا على الثالث، فهو يقول: "هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين، ولا يجوز أن تقتصر على مفعول منهم واحد دون الثلاثة؛ لأنّ المفعول ها هنا كالفاعل في الباب الأول الذي قبله في المعنى. (الكتاب ١/ ٤١).