للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أنّ "زالَ" من قولهم: "ما زال يفعل" وزنُه "فَعِلَ" بكسر العين، وإنما قلت ذلك؛ لقولهم في المضارع: "يَزالُ" على "يَفْعَل" بالفتح، و"يفعَل" مفتوحَ العين إنما يأتي من "فَعِلَ" بكسر العين دون غيره، إلّا أن تكون العين أو اللام حرفًا حلقيَّا، نحوَ: "سَألَ، يَسألُ"، و"قَرَأ، يَقْرَأ"، وعينُه من الياء، وليس من لفظِ "زال"، "يزول"؛ لقولهم: "زَيَّلْتُه، فزال، وزايلته". وهذه دلالة قاطعةٌ تشهد أنه من الياء.

فإن قيل: يجوز أن يكون "زيّلته": "فَيْعَلْتُه"، مثلَ "بَيْطَرْتُه". وإذا جاز أن يكون كذلك، فلا يكون فيه دليلٌ. قيل: لو كان "فيعلته"، لجاء مصدره "زَيّلَةً" على وزن "فَيْعَلَةَ"، وحيث لم يجىء، دلّ ذلك على أنه "فَعَّلَ" لا "فَيْعَلَ". ومما يدلّ على ذلك قولهم: "لم يَزَلْ" بالفتح، ولو كان من "زال"، "يَزُولُ"، لقيل: "لم يَزُلْ" بالضمّ. وأصلُ "زال" ها هنا أن يكون لازمًا غير متعدّ، نحوَ قولك: "زال الشيءُ"، أي: فاتَ، وَبَرِحَ، إلّا أنه جُرّد من الحدث لدلالته على الزمان، وأُدْخل على المبتدأ والخبر، كما كانت "كانَ" كذلك.

وأمّا "بَرِحَ" من قولهم: "ما برح"، فهو بمعنى "زال"، و"جاوز". ومنه قيل للّيلة الخالية: "البارحة"، وكذلك قيل: "أبرحتَ رَبًّا، وأبرحت جارًا"، أي: جاوزتَ ما يكون عليه أمثالُك من الخِلال المرضيّة. فقالوا: "ما برح يفعل" بمعنى: "ما زال".

وقد فرّق بعضهم بين "ما زال" و"ما برح"، فقال: "برح" لا يستعمل في الكلام إلّا ويُراد به البَراحُ من المكان، فلا بدّ من ذكر المكان معه، أو تقديرِه. وذلك ضعيف؛ لأنه قد جاء في غير المكان. قال الله تعالى: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} (١)، فـ "لا أبرح" هذه لا يجوز أن يُراد بها البراح من المكان؛ لأنه من المُحال أن يبلغ مجمع البحرين، وهو في مكانه لم يبرح منه. وإذا لم يجز حملُه على البراح، تَعيّن أن يكون بمعنى "لا أزالُ".

وأما "انفكّ" من قولهم: "ما انفكّ يفعل"، فهي أيضًا بمعنى "زال" من قولك: "فككت الشيءَ من الشيء"، إذا خلّصته منه. وكلّ مشتبِكَين فصلتَ أحدهما عن الآخر فقد فككتَهما. وفَكَّ الرَّقبةَ: أعتقها. ثمّ جُرّدت من الدلالة على الحدث، ثمّ أُدْخلت على المبتدأ والخبر، كما فُعل بـ"كانَ". وأما "فَتِىءَ" من قولهم: "ما فتىء يفعل"، فهو أيضًا بمعنى "زال". يُقال منه: "فَتِىءَ" و"فَتأ" بالكسر والفتح، ويُقال منه: "ما أفْتَأتَ تفعل"، فاعرفه.

* * *


(١) الكهف:٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>