للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنّ "إلّا" واقعة في غير موقعها، والنيّةُ بها التأخير، والمراد: "ما تنفكّ مناخة إلّا على الخسف". ومثله في وقوع "إِلا" في غير موقعها قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (١)، وقول الشاعر [من المتقارب]:

١٠٢٥ - [أَحَلَّ لَهُ الشيْبُ أثْقالَهُ] ... وما اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلّا اغْتِرارَا

ألا ترى أنك لو حملت الكلام على هذا الظاهر الذي هو عليه، لم يكن فيه فائدةٌ، لأنه: لا يُظَنّ إلّا الظن، ولا يغترّه الشيبُ إلّا اغترارًا، فإذ كان كذلك، علمت أن المعنى والتقدير: إنْ نحن إلّا نظنُّ ظَنًا، وما اغترّه إلّا الشيبُ اغترارًا.

فإن قيل: ما ذكرتَه من وقوعِ "إلا" في غير موضعها، إنما أُخّرت عن موضعها، ومعناه التقديم، وما ذكرتَه "إلّا" فيه مقدّمةٌ، وأنت تنوي بها التأخير، وذلك خلافُ ما ذكرتَه.

فالجواب: أنه إذا جاز التأخير، جاز التقديم, لأنه مثله في أنه واقع في غير موقعه. ويجوز أن يكون الشاعر راعى اللفظ, لأنه منفيّ، ولم ينظر إلى المعنى، فأدخل "إلّا" لذلك، ومثله كثيرٌ. قال الله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (٢)، فأَدخل الباء في الخبر لوجود لفظ النفي؛ لأنّ الباء إنما تزداد لتأكيد النفي، والمعنى فيها على الإيجاب. ومثله قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (٣) في قول بعضهم: إنّ "إنْ" هنا بمعنى "نَعَمْ"، ودخلت اللام لوجود لفظِ، "إنْ"، وإن لم يكن المعنى معناها.


(١) الجاثية: ٣٢
١٠٢٥ - التخريج: البيت للأعشى في ديوانه ص ٩٥؛ وخزانة الأدب ٣/ ٣٧٤؛ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٩٧؛ وشرح شواهد المغني ص ٧٠٤.
اللغة: أحلّ: أنزل. أثقاله: متاعبه، اغتره. خدعه.
المعنى: لقد فاجأته الشيخوخة بأعبائها وهمومها، كما داهمه الشيب على حين غرة منه ولم يكن قد فكر فيه من قبل.
الإعراب: "أحل": فعل ماضٍ مبني على الفتحة. "له": جارّ ومجرور متعلقان بالفعل (أحل). "الشيب": فاعل مرفوع بالضمة. "أثقاله": مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة، وهو مضاف، والهاء: ضمير متصل في محلّ جر بالإضافة. "وما اغتره": الواو: عاطفة، وما: نافية، و"اغتر": فعل ماضٍ مبني على الفتحة الظاهرة، والهاء: ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به. "الشيب": فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة. "إلا اغترارًا": "إلا": حرف حصر، و"اغترارًا": مفعول مطلق منصوب بالفتحة.
وجملة "أحل الشيب": ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة "وما اغتره الشيب": معطوفة على جملة ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب.
والشاهد فيه قوله: "ما اغتره الشيب إلا اغترار" فقد أخر "إلا" إلى ما بعد الفاعل وقبل المفعول المطلق، وكان يجدر به أن يقول: "وما اغتره اغترارًا إلا الشيب".
(٢) القيامة: ٤٠.
(٣) طه: ٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>