للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم من غلّب جانب الفعل، ويجعل الاسم كالمُلْغَى، ويرفع الاسمَ بعده رَفْعَ الفاعل، فإذا قلت: "حبّذا زيدٌ"، فـ "حبّذا" فعلٌ، و"زيد" فاعل، و"ذَا" لَغْوٌ. وإنما غلّبوا جانبَ الفعل هنا؛ لأنه أسبقُ لفظًا. ويدلّ على ذلك أنهم قد صرفوه، فقالوا: "لا يُحَبِّذُهُ بما لا ينفعه". والأوّلُ أمثل. وقولهم: "لا يحبّذه"، كأنهم اشتقوا فعلًا من لفظ الجملة، كقولهم: "حَمْدَلَ" في حكايةِ "الحمدُ لله"، و"سَبْحَلَ" في حكايته "سبحانَ الله"، فهذان وجهان عربيان كما ترى.

ومنهم من لا يغلّب أحدهما على الآخر، ويُجْريهما على ظاهرهما، وهو المذهب المشهور، فيجريهما مجرى "نعم"، و"بئس"، ويكون "حَبَّ" فعلًا ماضيًا، و"ذَا" فاعلٌ في موضعِ رفع، والاسمُ الأخير يرتفع من حيث يرتفع بعد "نعم" من الوجهَيْن المذكورَيْن، فيكون "زيد" مَثَلا من قولك: "حبّذا زيدٌ" إمّا مبتدأ، و"حبّذا" الخبر، كما كانت في "نعم" كذلك، وإمّا أن يكون في موضعِ خبرِ مبتدأ محذوف، أي: هو زيدٌ. ويُضاف إليه الوجوه التي ذكرناها، وهو أن يكون خبرَ "حبذا" على رأيِ من يجعل "حبّذا" مبتدأ، وأن يكون فاعلاً على رأيِ من يجعل "حبّذا" فعلًا، ويُلْغِي الاسم الذي هو"ذا"، وأن يكون بدلًا من "ذا"، فقد صار ارتفاع "زيدٍ" في قولك: "حبّذا زيدٌ" من خمسة أوجه.

وقوله: "حبّذا ممّا يُناسِب هذا البابَ" يعني بابَ "نعم" و"بئس"؛ لِما فيها من معنى المدح والمبالغة.

وقوله: "وفيه لغتان: فتح الفاء، وضمّها" يعني "حبّ" إذا أُريد بها المدح من غير إسنادها إلى "ذا"، وذلك أنك إذا قلت: "حبّ رجلًا"، فمعناه: صار محبوبًا جدًّا، وأصله "حَبُبَ" مضمومَ الباء؛ لأنه منقول من "حَبَبَ" مفتوحَ الباء لِما أُريد فيه من المبالغة على ما ذكرناه في قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا} (١)، حين أُريد به المبالغة في الذمّ، وإجرائه مجرَى "بئس"، إلَّا أنّ منهم من ينقل حركة العين إلى الفاء عند الإدّغام إيذانًا بالأصل. ومنهم من يحذف الضمّ حذفًا، ويُبْقِي الفاء مفتوحةً بحالها، وعليه قوله [من الطويل]:

فقلتُ اقْتُلُوها عَنْكُمُ بمزاجها ... وحُبَّ بها مقتولةٌ حينَ تُقْتَلُ (٢)

البيت لحسّان (٣)، والشاهد فيه قوله: "وحبّ بها مقتولة"، فإنّه قد رُوي بفتح الحاء

وضمّها, لمِا ذكرناه، يصف الخَمْر. فأمّا إذا رُكّبت مع "ذا"؛ فإنّ الحاء لا تكون إلَّا

مفتوحة, لأنه لمّا أسند إلى "ذا"، ولزم المعنى، جرى مجرى الأمثال، فلم تُغيَّر الأمثالُ،


(١) الأعراف: ١٧٧.
(٢) تقدم بالرقم ١٠٤١.
(٣) كذا في الطبعتين، وهو للأخطل.

<<  <  ج: ص:  >  >>