للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أحسن زيدًا! " و"ما أجمل خالدًا! " وهي جملة مركّبة من مبتدأ وخبر، فـ "ما" اسمٌ مبتدأٌ في موضع رفع، وهي هنا اسم غير موصول، ولا موصوف بمعنى "شَيْء كأنّك قلت: "شيءٌ حسن زيدًا"، ولم تُرِد شيئًا بعينه، إنما هي مبهمة، كما قالوا: "شيءٌ جاء بك أي: ما جاء بك إلَّا شيءٌ، ونحوَ قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} (١)، أي: نعم شيئًا هي. ولمّا أُريد بها الإبهام، جُعلت بغير صلة، ولا صفة، إذ لو وُصفتْ، أو وُصلتْ، لكان الأمر معلومًا.

فإن قيل: ولِمَ خصّوا التعجّبَ بـ "ما" دون غيرها من الأسماء؟ قيل: لإبهامها، والشيءُ إذا أبهم، كان أفخم لمعناه، وكانت النفس متشوفةً إليه، لاحتماله أُمورًا.

فإن قيل: فإذا قلتم: إِن تقديرَ "ما أحسن زيدًا" "شيءٌ أحسنه، وأصاره إلى الحسن"، فهلا استعمل الأصل الذي هو"شيْءٌ فالجواب: أنه لو قيل: "شيءٌ أحسن"، لم يُفْهَم منه التعجّب؛ لأن "شَيْئا"، وإن كان فيه إبهامٌ، إلَّا أن "ما" أشد إبهامًا، والمتعجَّبُ مُغظِمٌ للأمر، فإذا قال: "ما أحسن زيدًا! " فقد جعل الأشياءَ التي يقع بها الحسنُ متكاملِة فيه. ولو قال: "شيء أحسن زيدًا"، كان قد قصر حسنَه على جهة دون سائر جهات الحسن؛ لأن الشيء قد يستعمل للقليل. وأمّا "أفْعَلَ" في التعجّب، ففعلٌ ماضٍ غيرُ متصرّف، لا يستعمل إلَّا بلفظ الماضي، ولا يكون منه مضارعٌ، ولا أمرٌ، ولا اسمُ فاعل، فلا تقول في "ما أحسن زيدًا": "ما يُحْسِن زيدًا"، ولا نحوَه من أنواع التصرّف. وقد خالف الكوفيون (٢) في ذلك، وزعموا أنّ "أفْعَلَ" في التعجّب بمنزلةِ "أفعل" في التفضيل، واحتجوا بجواز تصغيره نحوِ قوله [من البسيط]:

يا ما أُمَيْلِحَ غِزلانًا شَدَنَّ لنا ... مِن هؤُلَيائِكُنَّ الضالِ والسَّمُرِ (٣)

والأفعال لا يصغر شيء منها. قالوا: وأيضًا فإنّه تصح عينُه في التعجّب، نحوَ: "ما أقْوَلَهُ! " و"ما أبْيَعَهُ! " وهذا التصحيح إنما يكون في الأسماء، نحوِ: "زيدٌ أقْوَمُ من عمرو، وأبْيَعُ منه". ولو كان فعلًا، لاعتلّ بقلب عينه ألفًا، نحوَ: "أقال"، و"أباع". والحقُّ ما ذهب إليه البصريون، وذلك لأُمور، منها أنه قد يدخل عليها نونُ الوقاية، نحو: "ما أحْسَنَنِي عندك! " و"ما أظرفني في عينك! " و"ما أعلمني في ظنك! " ونونُ الوقاية إنما تدخل على الفعل، لا على الاسم، فتقول: "أعْلَمَني ولا تقول: "مُعْلِمُنِي وتقول: "ضَرَبَني", ولا تقول: "ضارِبُني".


(١) البقرة: ٢٧١.
(٢) انظر المسألة الخامسة عشرة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" ص ١٢٦ - ١٤٨.
(٣) تقدم بالرقم ١٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>