ولو قلت:"مات زيدٌ والشمسَ"، أي: مع الشمس، لم يصحّ؛ لأنه لا يصحّ عطف "الشمس" على "زيد" المُسْنَدِ إليه الموتُ، إذ لا يصحّ فيها الموت. وكذلك لو قلت:"لانتظرتُك وطلوعَ الشمس"؛ لم يصحّ؛ لأنك لو رفعت بالعطف على الفاعل، لم يجز؛ لأن "الشمس" لا يصحّ منها الانتظارُ. هذا مع أن أبا الحسن الأخفش كان يذهب إلى أن انتصاب المفعول معه انتصابُ الظرف، يعمل فيه روائحُ الأفعال، فلا يحتاج إلى مُقَوٍّ للفعل.
وأمّا "إلَّا" في الاستثناء، فكذلك لا اختصاص لها بالأسماء، ولا يصحّ إعمالها فيما بعدها، ألا تراك تقول:"ما جاء زيدٌ قطّ إلَّا يضحك"، و"ما مررت به إلا يُصلِّي"، و"لا رأيتُه قطّ إلَّا في المسجد"؟ فلمّا كانت تدخل على الأفعال والحروف على حدّ دخولها على الأسماء؛ لم يكن لها عملٌ، لا جرٌّ، ولا غيره. كيف وأبو العبّاس المبرد كان يذهب إلى أن الناصب للمستثنى فعلٌ دلّ عليه مجرى الكلام، تقديرُه:"أستثني"، أو"لا أعني" ونحوُه، فلا تكون "إلَّا" مُقوِّيةً. فافترق حالُ هذين الحرفين، أعني الواو و"إلَّا"، وحال حروف الجّر.
واعلم أن حرف الجرّ إذا دخل على الاسم المجرور، فيكون موضعُ الحرف الجارّ والاسمِ المجرور نصبًا بالفعل المتقدّم. يدلّ على ذلك أمران:
أحدهما: أنّ عِبْرة الفعل المتعدّي بحرف الجرّ عبرةُ ما يتعدّى بنفسه إذا كان في معناه، ألاَّ ترى أن قولك:"مررت بزيد" معناه كمعنى "جُزْت زيدًا"، و"انصرفتُ عن خالدٍ" كقولك: "جاوزتُ خالدًا؟ " فكما أنّ ما بعد الأفعال المتعدّية بأنفسها منصوبٌ، فكذلك ما كان في معناها ممّا يتعدّى بحرف الجرّ؛ لأن الاقتضاء واحدٌ، إلَّا أن هذه الأفعال ضعُفت في الاستعمال، فافتقرت إلى مُقَوٍّ.
والأمر الآخر: من جهة اللفظ، فإنّك قد تنصب ما عطفتَه على الجار والمجرور، نحوَ قولك:"مررت بزيد وعمرًا"، وإن شئت:"وعمروٍ" بالخفض على اللفظ، والنصب على الموضع. وكذلك الصفةُ، نحوُ:"مررت بزيدٍ الظريفَ (بالنصب) والظريفِ (بالخفض) ". فهذا يؤذن بأن الجارّ والمجرور في موضع نصب. ولذلك قال سيبويه (١): إنك إذا قلت: "مررت بزيد"، فكأنّك قلت:"مررت زيدًا". يريد أنه لو كان ممّا يجوز أن يستعمل بغير حرف جرّ، لكان منصوبًا.
وجملةُ الأمران حرف الجرّ يتنزّل منزلةَ جُزْء من الاسم من حيث كان وما بعده في موضع نصب، وبمنزلةِ جُزْء من الفعل من حيث تَعدّى به، فصار حرفُ الجرّ بمنزلة الهمزة والتضعيف من نحوِ "أذهبتُ زيدًا"، و"فرّحته"، فاعرفه.