للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما ضعفت هذه الأفعال عن الوصول إلى الأسماء رفدت بحروف الإضافة،

فجعلت موصلة لها إليها. فقالوا: "عجبتُ من زيد"، و"نظرتُ إلى عمرو"، وخُص كلّ

قبيل من هذه الأفعال بقبيل من هذه الحروف، وقد تَداخلت، فيُشارِك بعضُها بعضًا في

هذه الحروف الموصلة، وجُعلت تلك الحروف جارّةً، ولم تُفْضِ إلى الأسماء النصبَ من الأفعال قبلها؛ لأنهم أرادوا الفصل بين الفعل الواصل بنفسه وبين الفعل الواصل بغيره؛ ليمتاز السببُ الأقوى من السبب الأضعف. وجُعلت هذه الحروف جارّةً؛ ليخالف لفظُ ما بعدها لفظَ ما بعد الفعل القويّ. ولمّا امتنع النصب لِما ذكرناه، لم يبق إلَّا الجرّ؛ لأن الرفع قد استبدّ به الفاعلُ، واستولى عليه، فلذلك عدلوا إلى الجرّ؛ لأن الجرّ أقرب إلى النصب من الرفع؛ لأن الجرّ من مَخْرج الياء، والنصب من مخرج الألف، والألفُ أقرب إليها من الواو.

فإن قيل: فإذا قلتم: إن هذه الحروف إنما أُتي بها لإيصال معاني الأفعال إلى الأسماء، فما بالهم يقولون: "زيدٌ في الدار"، و"المالُ لخالدٍ" فجيء بهذه الحروف، ولا فعلَ قبلها؟ فالجواب أنه ليس في الكلام حرفُ جر إلَّا وهو متعلّقٌ بفعل، أو ما هو بمعنى الفعل في اللفظ أو التقدير. أمّا اللفظ، فقولك: "انصرفت عن زيد"، و"ذهبت إلى بكرٍ"، فالحرف الذي هو "إلى" متعلّقٌ بالفعل الذي قبله. وأمّا تعلُّقه بالفعل في المعنى، فنحو قولك: "المالُ لزيد"، تقديرُه: المال حاصلٌ لزيد. وكذلك "زيدٌ في الدار" تقديره: زيدٌ مستقرٌّ في الدار، أو يستقرّ في الدار، فثبت بما ذكرناه أن هذه الحروف إنما جيء بها مُقوِّيةَ ومُوصِلةً لِما قبلها من الأفعال، أو ما هو في معنى الفعل إلى ما بعدها من الأسماء.

فإن قيل: فما لهم لا يخفضون بالواو في المفعول معه، نحو "استوى الماءُ والخَشَبَةَ"، و"جاء البَرْدُ والطَيالِسَةَ"، وبـ "إلَّا" في الاستثناء، نحو: "قام القومُ إلَّا زيدًا"، وكل واحد منهما إنما دخل مُقوِّيًا للفعل قبله، ومُوصِلًا له إلى ما بعده كما كانت حروف الجرّ كذلك، وفي عدم اعتبارِ ذلك دليلٌ على فساد العلّة؟ فالجواب أن حروف الجرّ إنّما عملت لشَبَهها بالأفعال واختصاصِها بالأسماء، واختضت بعمل الجرّ دون غيرها، لِما ذكرناه من العلّة. فأمّا واو المفعول معه، و"إلَّا" في الاستثناء فلم يستحقّا أصلَ العمل لعدم اختصاصهما، فلم يعملا جرًّا ولا غيرَه. وأمّا الواو، فلأنّ أصلها العطف، وحرفُ العطف لا عملَ له لعدم اختصاصه بالأسماء دون الأفعال.

والذي يدلّ على ذلك أنها لا تستعمل بمعنى "مَعَ" إلَّا في الموضع الذي يجوز أن تكون فيه عاطفةً، نحوِ قولك: "قمتُ وزيدًا"، أي: مع زيد؛ لأنه يجوز أن تقول: "قمتُ وزيدٌ"، فترفع "زيدًا" بالعطف على موضع التاء.

وكذلك: "لو تُركت الناقةُ وفصيلَها" بمعنى: مع فصيلها، فإنّه قد كان يجوز أن تقول: و"فصيلُها"، بالرفع بالعطف على "الناقة".

<<  <  ج: ص:  >  >>