للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الأمر أنّ فيها معنى الاستدراك، والاستدراكُ لا يُزيل معنى الابتداء والاستئنافِ، فجاز أن يُعْطَف على موضعها كـ "إنَّ"؛ لأنّ "إنَّ" إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها, لأنها لم تُغيِّر معنى الابتداء بخلافِ "كأنّ"، و"ليت"، و"لعلّ".

ومن النحويين من لم يجز العطف على موضعِ "لكنّ"، ويدّعي زوالَ معنى الابتداء، لإفادة معنى الاستدراك فيها. والمذهب الأوّل, لأن الاستدراك ليس معنًى يرجع إلى الخبر، وإنما هو رجوعٌ عن معنى الكلام الأوّل إلى كلام آخر، وتدارُكُه. وذلك أمرٌ لا يتعلّق بالخبر.

وقوله: "ولكِنَّ" تشايع "إنَّ" في ذلك يريد: تُصاحِبها في ذلك وتُتابِعها، وهو من قولهم: "حَياكم اللهُ، وأشاعَكم السلامَ أي: أصحبَكم، وأتبعَكم.

وقوله: "وقد أجرى الزجّاج الصفة مجرى المعطوف" يريد صفة الاسم المنصوب بـ "إنَّ". وذلك أنّ سيبويه (١) ومن يرى رأيَه كان يجوّز العطف على موضعه بالرفع، ولا يجوّز ذلك في الصفة، لو قلت: "إنَّ زيدًا العاقلُ في الدار" لم يجز عنده، وتقول: "لا رجلَ ظريفٌ في الدار" فتصف المنفيّ على الموضع.

والفرقُ بينهما أنّ "لا" مع الاسم الذي دخلتْ عليه بمنزلة شيء واحد، إذ قد بُنيا معًا كبناء "خمسةَ عشرَ" في تركيب أحدهما مع الآخر، وليس كذلك اسمُ "إنَّ"؛ لأنه منفصلٌ. يدلّ على ذلك جوازُ تقديم الخبر إذا كان ظرفًا، كقولك: "إنَّ في الدار زيدًا"، ولا يجوز مثلُ ذلك في "لا رجلَ" للبناء. فأمّا جواز العطف على الموضع، فلأنّ المعطوف منفصلٌ من المعطوف عليه، إذ ليس من اسمه، وقد فصله حرفُ العطف منه، والصفةُ من اسم الموصوف؛ لأنهما يرجعان إلى شيء واحد.

وقد أجاز ذلك الزجّاج وغيره من النحويين، وقاسه على العطف، وحمل عليه قولَه تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (٢). والمذهب الأوّل. فأمّا قوله تعالى: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، فهو محمول على البدل من المضمر في "يقذف"، أو على أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو علّامُ الغيوب، أو خبرٌ بعد خبر. ويجوز نصبه على أن يكون حالًا من المضمر في الظرف، والنيّةُ في الإضافة الانفصال، والمراد به الحال.

وقوله: إنّما يصحّ الحمل على المحلّ بعد مضيّ الجملة، فالمراد أن العطف على الموضع لا يجوز قبل تمام الكلام, لأنه حملٌ على التأويل، ولا يصحّ تأويل الكلام إلَّا بعد تمامه، فعلى هذا تقول: "إنَّ زيدًا وعمرًا منطلقان"، ولا يجوز الرفع في "عمرو" بالعطف على الموضع؛ لأن الكلام لم يتمّ، إذ الخبر متأخّر عن الاسم المعطوف، ولكن


(١) الكتاب ١/ ٦١.
(٢) سبأ: ٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>