للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أن هذه الحروف الثلاثة تُوافِق الواوَ من جهة، وتُفارِقها من جهة أخرى. فأمّا جهة الموافَقة، فاشتراكُهن في الجمع بين شيئيْن أو أشياءَ في الحكم، وأمّا المخالفة فمن جهة الترتيب، فالواوُ لا تُرتب. وهذه الثلاثةُ ترتب، وتوجِب أن الثاني بعد الأوّل. فمن ذلك الفاء، فإنها ترتب بغير مهلة، يدل على ذلك وقوعها في الجواب، وامتناعُ الواو و"ثُم" منه، فامتناعُ "ثُم" منه إنما هو لأنها ترتب بمهلة، فعُلم بما دْكرناه أنّ الفاء موضوعة لدخول الثاني فيما دخل فيه الأوَّل متصِلاً.

وجملة الأمر أنّها تدخل الكلامَ على ثلاثة أضرب: ضربُ تكون فيه مُتبِعة عاطفة، وضربٌ تكون فيه مُتْبِعة مجرَّدة من معنى العطف، وضرب تكون فيه زائدة دخولها كخروجها، إلَّا أن المعنى الذي تختص به وتُنسَب إليه هو معنى الإتباع، وما عدا ذلك فعارضٌ فيها؛ فأمّا الأوّل فنحو قولك: "مروت بزيدٍ فعمرو"، و"ضربتُ عمرًا فأوجعتُه"، و"دخلت الكوفةَ فالبصرةَ"، أخبرتَ أنّ مرورَ عمرو كان عقيب مرور زيد بلا مهلة.

ولذلك قال سيبويه: فالمرور مروران، يريد أن مروره بزيد غيرُ مروره بعمرو، وأنّ إيجاع زيد كان عقيب الضرب، وأن البصرة داخلة في الدخول كالكوفة على سبيل الاتصال. ومعنى ذلك أنه لم يقطع سيرَه الذي دخل به الكوفةَ حتى اتصل بالسير الذي دخل به البصرةَ من غير فتور ولا مهلةٍ. ولهذا من المعنى (١) وقع ما قبلها علّة وسببًا لِما بعدها، نحوَ قولك: "أعطيتُه فشكر"، و"ضربته فبكى"، فالإعطاءُ سبب الشكر، والضرب سبب البكاء، والمسبَّبُ يقع ثانيَ السبب وبعده متصلاً به، فلذلك اختاروا لهذا المعنى الفاء، فاعرفه.

وأما الضرب الثاني: وهو الذي يكون الفاء فيه للإتباع دون العطف، ففي كل موضع يكون فيه الأول علة لوجود الآخِر، ولا يشارِك الأوّلَ في الإعراب. وهذا نحوُ جواب الشرط، كقولك: "إن تُحْسِن إليّ، فاللهُ يجازيك"، فالفاءُ هنا للإتباع دون العطف. ألا ترى أن الشرط فعلٌ مجزوم، والجواب بعد الفاء جملةٌ من مبتدأ وخبر لا يسوغ فيها الجزم؟ وإنما أتي بالفاء ههنا توصلاً إلى المجازاة بالجمل المركّبة من المبتدأ والخبر، فإنه لولا الفاءُ، لَما صح أن تكون جوابًا، فلمّا كانَ الإتباع لا يفارقها والعطفُ قد يفارقها، كان الإتباع أصلاً فيها.

وأما الضرب الثالث: وهو زيادتها، فاعلمْ أن الفاء قد تزاد عند جماعةِ من النحويين المتقدمين كأبي الحسن الأخفش وغيره، فإنّه يجيز: "زيدٌ فقائمٌ"، على معنى: "زيدٌ قائمٌ". وحكى: "زيدٌ فوجد" بـ "زيْد وجد"، وأجاز: "زيدًا فاضْرِبْ، وعمرًا فاشْكرْ" ومنه قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (٢)، أي: كَبرْ، وطَهر، واهجُر. ومن


(١) كذا في الطبعتين، ولعل الصواب: "ولهذا المعنى" بحذف "من".
(٢) المدثر: ٣ - ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>