للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الألف، لسَعَةِ مخرجها؛ ومخرجُ الحرف كلّما اتّسع ضعُف الصوتُ الخارجُ منه؛ وإذا ضاق، صلب الصوتُ، وقَوِيَ. فناسبوا بأن أعطوا الأقوى الأقوى، والأضعفَ الأضعفَ.

ووجهٌ ثالث: أن الفاعل أقلُّ من المفعول، إذ الفعلُ لا يكون له إلا فاعلٌ واحدٌ، وقد يكون له مفعولاتٌ كثيرةٌ، نحوَ: "ضَرَبَ زيد عمرًا"، و"أعطيتُ زيدًا درهمًا"، و"أعلمتُ زيدًا عمرًا خيرَ الناس"، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، وإلى ثلاثةٍ، ولك أن تأتي بالمصدر بعد ذلك، والظرفِ من الزمان، والظرفِ من المكان، والمفعولِ له، والمفعولِ معه، والحالِ، والاستثناء. والضمّةُ أثقلُ من الفتحة؛ فاعطوا الفاعلَ، الذي هو قليلٌ، الرفعَ الذي هو ثقيلٌ، وأعطوا المفعولَ، الذي هو كثير، النصبَ الذي هو خفيفٌ. وإنما فعلوا ذلك لوجهَيْن: أحدهما: لِيَقِل في كلامهم ما يستثقلون، وهو الضمّة. والثاني: أنهم خصّوا الفاعلَ بالرفع، والمفعولَ بالنصب، ليكون ذلك عَدْلاً في الكلام، فيكونَ ثقلُ الرفع موازِيًا لقلّةِ الفاعل، وخِفةُ النصب موازِية لكثرةِ المفعول. ومثلُه مثلُ مَن نُصب بين يَدْيه حَجَران؛ أحدهما خمسةُ أرطال، والآخرُ عشرةُ أرطال، ثمّ قيل له: عالِجْ إن شئت الخفيفَ (١) عشرَ مرّات، وإن شئت عالجِ الثقيلَ خمس مرّات. فتكون كثرةُ ممارسَةِ الخفيفَ موازية لقلّة ممارسةِ الثقيل، فيكون ذلك جاريًا على منهاج الحِكْمة والعَدْلِ. فاعرفه.

* * *

قال صاحب الكتاب: "والأصل فيه أن يلي الفعل, لأنه كالجزء منه؛ إذا قُدّم عليه غيره, كان في النية مؤخرًا, ومن ثم جاز: "ضرب غلامه زيدٌ", وامتنع: "ضرب غلامه زيدًا".

* * *

قال الشارح: اعلم أن القياس في الفعل، من حيث هو حركةُ الفاعل، في الأصل، أن يكون بعد الفاعل؛ لأنّ وجوده قبل وجودِ فعله، لكنه عَرَضَ للفعل أن كان عاملًا في الفاعل والمفعولِ، لتعلُّقهما به، واقتضائه إيّاهما، وكانت مرتبةُ العامل قبل المعمول، فقُدّم الفعل عليهما لذلك، وكان العلمُ باستحقاقِ تقدُّم الفاعل على فعله، من حيث هو مُوجِدُه ثانيًا، فأغنى أَمْنُ اللبْس فيه عن وضع اللفظَ عليه، فلذلك قُدّم الفعل، وكان الفاعل لازمًا له، يتنزل منزلةَ الجُزْء منه، بدليلِ أَنّه لا يستغني عنه، ولا يجوز إخلاءُ الفعل عن فاعلِ، ولذلك إذا اتّصل به ضميرُه، أسكن آخِره، نحوَ: "ضَرَبْتُ"، وَ "ضَرَبْنَا"، و"ضَرَبْتُمْ"، على ما سنذكر في الفصل الذي بعده.

وقد تقدّم من الدليل، في شرح الخُطْبة، على شدّةِ اتّصالِ الفاعل بالفعل، واختلاطِه


(١) في الطبعتين: "الخفيفة"، وهذا تحريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>