للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأمّا فعل جماعة المؤنّث، فإذا دخلت عليه نونُ التوكيد المشدّدةُ؛ فإنّك تقول: "اضرِبْنانِّ" و"هل تَضرِبنانِّ؟ " والأصل: هل تَضْرِبنَ؟، فالنون لجماعة المؤنّث، ثمّ دخلت النون الشديدة، فصار هل تضربنَنِّ؟ باجتماعِ ثلاث نونات، وهم يستثقلون اجتماعَ النونات. ألا ترى أنّهم قالوا: "أني" وَ"كَأنِّي"، والأصل: "أنّنِي"، و"كَأنَّنِي"، فحذفوا النونات استثقالًا لاجتماعهنّ؟ فلمّا أدّى إدخالُ نون التأكيد على فعل جماعة النساء إلى اجتماع ذلك، ولم يُمّكِن حدْفُ إحداهنّ، أدخلوا ألفًا فاصلةً بين النونات لِيزول في اللفظ اجتماعُهنّ، فقالوا: اضربنَانِّ، فالألفُ ههنا شبيهٌ بالألف الفاصلة بين الهمزتين في نحو: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (١)، و {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (٢)؛ لأنّه بالفصل بينهما يزول الاستثقالُ.

وسيبويه لا يرى إدخالَ نون التأكيد الخفيفةِ لِما يُؤدِّي إليه من اجتماع الساكنين على غير شرطه، وهما النون وألف الوصل. وكان يونس يجيز ذلك، ويقول: "اضْرِبْنَان"، و"هل تَضرِبنَانْ؟ " كما يفعل في التثنية، وكأنّه يكتفي بأحد الشرطَين، وهو المدّ الذي في الألف. ونظيرُ ذلك عنده قراءةُ من قرأ {مَحْيَايَ} (٣) بإسكان الياء. وليس ذلك بقياس، وهو خلافُ كلام العرب.

فإذا وُقف على هذه النون على قياس قول يونس، قالوا: "اضرِبْنَا"، و"هل تَضرِبْنا؟ " فتُمدّ مقدارَ ألفين: ألفِ الفصل، والألفِ المبدلةِ من النون التي على حدِّ {لَنَسْفَعًا} (٤). وكان الزجّاج يُنْكِر ذلك، ويقول لو مُدَّ مَهْمَا مُدّ لم يكن إلَّا ألفًا واحدةً. والقولُ ما قاله يونس؛ لأنه يجوز أن يتفاوت المد، فيكون مدٌّ بإزاءِ ألف واحدة، ومدٌّ بإزاء ألفَيْن.

والكوفيون (٥) يزعمون أنّ النون الخفيفة أصلها الشديدة، فخُفّفت كما خُفّفت "إنَّ"، و"لكِنَّ". ومذهبُ سيبويه أنّ كلّ واحد منهما أصلٌ، وليست إحداهما من الأخُرى، إذ لو كانت منها, لكان حكمُهما حكمًا واحدًا، وليس الأمر كذلك، ألا ترى أنّك تُبدِل من الخفيفة في الوقف ألفًا، وتحذف إذا لقيها ساكنٌ، وحكمُ "إنْ"، و"لكِنْ" بعد التخفيف كحكمهما قبله لا يختلف الأمرُ فيهما؟ فلمّا اختلف حكمُ النونَين، دلّ على اختلافهما في أنفسهما.


(١) يس: ١٠.
(٢) المائدة: ١١٦.
(٣) الأنعام: ١٦٢. (في الطبعتين "محياي" بإسقاط الواو). وهي قراءة نافع وورش وغيرهما.
انظر: البحر المحيط ٤/ ٢٦٢؛ وتفسير القرطبي ٧/ ١٥٢؛ والنشر في القراءات العشر ٢/ ٢٦٧؛ ومعجم القراءات القرآنية ٢/ ٣٤٠.
(٤) العلق: ١٥.
(٥) انظر المسألة الرابعة والتسعين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ٦٥٠ - ٦٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>