وذهب البصريون إلى أنّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، وهو معنىّ ثمّ اختلفوا فيه؛ فذهب بعضُهم إلى أنّ ذلك المعنى هو التَّعَرِّي من العوامل اللفظيّة. وقال الآخرون: هو التعرّي، وإسنادُ الخبر إليه (١). وهو الظاهرُ من كلامِ صاحب هذا الكتاب. والقول على ذلك أنّ التعرّي لا يصِحّ أن يكون سَبَبًا, ولا جزءًا من السبب؛ وذلك أنّ العوامل توجِب عمَلًا، والعدمَ لا يوجِب عمَلًا، إذ لا بدّ للموجِب والموجَبِ من اختصاص يوجِب ذلك، ونِسْبَةُ العدم إلى الأشياء كلَّها نسبةٌ واحدةٌ.
فإن قيل: العوامل في هذه الصنعة ليست مؤثرة تأثِيرًا حِسِّيًا، كالإحراق للنار، والبَرْدِ والبَلَّ للماء، وإنّما هي أَماراتٌ ودَلالاتٌ، والأَمارةُ قد تكون بعدم الشيء، كما تكون بوُجوده، ألا ترى أنه لو كان معك ثَوْبان، وأردت أن تُميِّز أحدَهما من الآخر، وصبغتَ أحدَهما، وتركتَ صَبْغَ الآخر، لكان تركُ صبغ أحدِهما في التمييز بمنزلةِ صبغ الآخر؛ فكذلك ههنا.
قيل: هذا فاسدٌ؛ لأنّه ليس الغرضُ من قولهم:"إنّ التعرّي عاملٌ" أنه مُعرّفٌ للعامل. إذ لو زُعم أنّه مُعرّفٌ، لكان اعترافًا بأنّ العامل غيرُ التعرّي.
وكان أبو إسحق يجعل العاملَ في المبتدأ ما في نفس المتكلّم؛ يعني من الإخبار عنه. قال: لأنّ الاسم لمّا كان لا بدّ له من حديثٍ يُحدَّث به عنه، صار هذا المعنى هو الرافعَ للمبتدأ.
والصحيح أن الابتداء اهتمامُك بالاسم، وجعلُك إياه أوّلاً لثانٍ كان خبرًا عنه.
والأوّليّةُ معنّى قائمٌ به يكْسِبه قوّةً؛ إذ كان غيرُه متعلّقًا به، وكانت رتبنُه مُتَقَدِّمةً على غيره. وهذه القوّة تُشبِّه به الفاعلَ، لأن الفاعل شرطُ تحقُّقِ معنى الفعل، وأن الفاعل قد أُسند إليه غيرُه، كما أنّ المبتدأ كذلك، إلَّا أنّ خبرَ المبتدأ بعده، وخبرَ الفاعل قبله، وفيما عَدَا ذلك هما فيه سَواءٌ.
وأمّا العامل في الخبر فذهب قومٌ إلى أنّه يرتفع بالابتداء وحدَه، وهو ظاهرُ مذهب صاحب الكتاب؛ ألا ترى إلى قوله:"وكونُهما مجرَّدَيْن للإسناد هو رافعُهما"، وإنمّا قلنا ذلك لأَنّه قد ثبت أنَّه عاملٌ في المبتدأ، فوجب أن يكون عاملًا في الخبر، لأنّه يقتضيهما معًا؛ ألا ترى أنّ "كأنَّ" لمّا اقتضت مشبّهًا ومشبَّهًا به، كانت عاملةً في الجزأيْن، كذلك ههنا؛ هذا معنى قوله:"لأنّه معنى يتناولهما معًا تناوُلًا واحدًا"؛ يعني الابتدأءَ.
وذهب آخرون إلى أنّ الابتداء والمبتدأ جميعًا يعملان في الخبر؛ قالوا: لأنّا وجدنا الخبرَ لا يقع إلَّا بعد المبتدأ والابتداءِ، فوجب أن يعملا فيه. وهذا القولُ عليه كثيرٌ من البصريين. ولا ينفكّ من ضُعْف؛ وذلك من قِبَل أن المبتدأ اسمٌ، والأصلُ في الأسماء ألّا
(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين ص ٤٤ - ٥١.