للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحلف بالله. ولذلك قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا فَلْيحلفْ باللهِ أو فَلْيَصْمُتْ" (١).

ومن ذلك حذف الخبر من الجملة الابتدائيّة، نحو: "لَعَمْرُكَ"، و"لَيْمُنُك"، و"أمانةُ الله"، فهذه كلُّها مبتدآتٌ محذوفةُ الأخبار تخفيفًا لطول الكلام بالجواب، والمرادُ: لعمرُك ما أُقْسِم به. قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (٢)، كأنّه حلف ببقاء النبيّ وحياته، ولذلك قال ابن عبّاس: لم يقسم الله تعالى بحياةِ أحد غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: "العمرُ" هنا مصدرٌ بمعنى العُمُور محذوفُ الزوائد، كقوله [من الطويل]:

قَيْدِ الأَوَابِدِ (٣)

والمراد التقييد، فحذف الزوائد، يقال: "عَمَرَ يَعْمُرُ" إذا عبد. حكى ابن السِّكّيت عن ابن الأعرابيّ أنّه سمع أعرابيًّا، وقد سُئل: "أَيْنَ تمضي؟ " قال: "أَمْضِي أَعْمُرُ الله"، أي: أعبدُ الله. ويجوز أن يكون البيتُ المعمورُ من هذا، أي الذي يُعْمَر فيه. وكذلك "أَيْمُن" وتصرّفُهم فيها، وقد ذكرنا لغاتِها والخلافَ فيها.

وقوله: "ونونُ "أيمن" وهمزتُه" يُفْهَم من ذلك أنّ حذف همزة "ايمن" في الدرج من قبيل تصرُّفهم في القسم، والقياسُ ثبوتُها في الدرج. وذلك من مذهب الكوفيين في أنّ الكلمة جمعٌ، وأنّ الهمزة قطعٌ، وإنّما وُصلت لكثرة الاستعمال، وهو رأي ابن كَيْسان، وابن دُرُسْتَوَيْهِ. وليس الأمرُ عندنا كذلك، وإنّما هي همزةُ وصل لا تثبت في الدرج كهمزة لام التعريف ونحوها من همزات الوصل، وقد تقدّم الكلام على ذلك.

ومن ضروب التصرّف في القسم إبدالُ التاء من الواو في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (٤)، و {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} (٥)، فالتاءُ بدلٌ من الواو في "واللَّهِ لأفعلنّ" لشَبَهها من جهة اتّساع المخرج؛ ولأنّهم قد أبدلوها في "تُراثٍ" و"تُكَأَةٍ" وما أشبه ذلك. ولا تكون هذه التاء إلّا في اسم الله تعالى خاصّةً؛ لأنّه لمّا كان أكثرُ ما يُقْسَم به هذا الاسمَ، طُلب له حرفٌ يخصّه، فكان ذلك الحرفُ هو التاء المبدلة من الواو في نحو قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (٦)، ومن ذلك قولهم في القسم: "لعَمْرُك لأفعلنّ"، فالعمرُ: البقاء والحياة، وفيه لغاتٌ، يقال: "عَمْرٌ" بفتح العين وإسكان الميم، و"عُمْرٌ" بضمّ العين وإسكان الميم، و"عُمُرٌ" بضمّهما، تقول: "أطال اللَّهُ عَمْرَك، وعُمْرَك وعُمُرَك". فإذا جئت إلى القسم، لا تستعمل فيه إلَّا المفتوحة العين؛ لأنّها أخفّ اللغات الثلاث، والقسمُ كثير، واختاروا له الأخفَّ.


(١) ورد الحديث في صحيح مسلم (برقم ١٦٤٦)، والموطأ (برقم ١٠٣١)؛ وسنن الترمذي (١٥٣٣، ١٥٣٤).
(٢) الحجر: ٧٢.
(٣) تقدم بالرقم ٢٨٦.
(٤) يوسف: ٨٥.
(٥) يوسف: ٩١.
(٦) الأنبياء: ٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>