للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أصلُ هذه الهمزة أن تكون في الأفعال خاصّةً، وإنّما هذه الأسماء محمولة في ذلك على الأفعال؟ لأنّها أسماءٌ معتلّةٌ سقطت أواخرُها للاعتلال، وكثُر استعمالُها، فسكن أوائلُها لِتكون ألفاتُ الوصل عوضًا ممّا سقط منها, ولم يُستنكر ذلك فيها، كما لم تُستنكر إضافةُ أسماء الزمان إلى الأفعال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (١) {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (٢). وقال الشاعر [من الطويل]:

على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبا (٣)

وكما وصفوا بالأفعال في قولك: "مررتُ برجلٍ يأكل"، وأصلُ الإضافة والصفة الأسماء كما أنّ أصل هذه الهمزة الأفعالُ.

فأمّا "ابنٌ"، فأصله "بنَوٌ" بفتح الفاء والعين كـ"جَبَلٍ"، و"جَمَلٍ"، دلّ على ذلك قولهم في الجمع: "أَبْنَاءٌ". قال الله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} (٤). وقال الشاعر [من الطويل]:

بَنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ (٥)

ولا يجوز أن يكون فِعْلاً كـ"جِذْعٍ", ولا فُعْلاً كـ"قُفْلِ"؛ لقولهم في جمع السلامة: "بَنُونَ" بفتح الباء، ولذلك قالوا في النسب: "بَنَوِيٌّ" بفتح فائه. والمحذوفُ منه واوٌ، هى لامه. دلّ على ذلك قولهم في المؤنّث: "بنتٌ"، كما قالوا "أُخْتٌ"، و"هَنْتٌ"، فأبدلوا التاء من لامها، وإبدالُ التاء من الواو أكثرُ من إبدالها من الياء، وعلى الأكثر يكون العملُ. فأمّا "البُنوَّةُ"، فلا دليلَ فيه لقولهم: "الفُتُوَّةُ"، وهو من الياء؛ لقولهم في التثنية: "فَتَيان"، وفي، الجمع: "فِتْيَةٌ"، و"فِتْيانٌ".

وكذلك "ابْنَةٌ" هو تأنيث "ابنٍ"، والتاء فيه للتأنيث على حدّها في "حَمْزَةَ"، و"طَلْحَةَ". فأمّا "بِنْتٌ"، فليست التاء فيه للتأنيث على حدّها في "ابنة". يدلّ على أنّها ليست للتأنيث سكونُ ما قبلها، وتاء التأنيث تفتح ما قبلها على حدِّ "قائمَة"، و"قاعدَة". وإنّما هي بدلٌ من لام الكلمة. يؤيّد ذلك قولُ سيبويه (٦): لو سمّيت بهما رجلاً، لصرفتَهما معرفةً، يعني: بِنْتًا وأُخْتًا. وهذا نصٌ من سيبويه، ألا ترى أنَّها لو كانت للتأنيث لما انصرف الاسم كما لم ينصرف نحو: "طلحةَ" و"حمزة"؟ فإن قيل: فإنّا نفهم من الكلمة التأنيثَ، قيل: التأنيث مستفادٌ من نفس الصيغة، ونَقْلِها من بناء إلى بناء آخر، وذلك أنّ أصلَ "بِنْتٍ": "بَنَوٌ"، فنقلوه إلى فِعْل ألحقوه بجِذْع بالتاء، كما ألحقوا "أُخْتًا" بالتاء بـ"قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"، فصارت الصيغة عَلَمًا للتأنيث، إذ كان هذا عَلَمًا اختصّ بالمؤنّث.


(١) النبأ:٤٠.
(٢) الكهف:٥٢.
(٣) تقدم بالرقم ٣٨.
(٤) المائدة: ١٨.
(٥) تقدم بالرقم ١٤٠.
(٦) الكتاب: ٣/ ٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>