"ما أنا بالّذي قائلٌ لك شيئًا"، والمرادُ: بالذي هو قائلٌ، فكذلك هنا يكون الظرفُ متعلّقًا باسم مفرد على تقدير مبتدأ محذوف؛ قيل: اطّرادُ وقوع الظرف خبرًا من غيرِ "هُوَ" دليلٌ على ما قلناه، فإن ظهرت في اللفظ كان حَسَنًا، وإن لمَ تأتِ بها فحسنٌ أيضًا، ولم يقبُح قُبْحَ "مَا أَنَا بَالَّذِي قَائِلٌ لَكَ" ولا هو في قِلّته، فاطّرادُ "جاءني الذي في الدار"، وقلّةُ "ما أنا بالذي قائلٌ لك شيئًا" تدل على ما ذكرناه، والأمر الثاني أنّ الظرف والجارّ والمجرور لا بدّ لهما من متعلَّقٍ به، والأصلُ أن يتعلّق بالفعل، وإنمّا يتعلّق بالاسم إذا كان في معنى الفعل ومن لفظه، ولا شَك أنّ تقدير الأصل الذي هو الفعلُ أوْلى، وقال قومٌ منهم ابنُ السَّرّاج: إِن المحذوف المقدَّر اسمٌ، وإِنَّ الإخبار بالظرف من قبيلِ المفردات، إذ كان يتعلق بمفرد، فتقديره: مستقرٌ أو كائنٌ ونحوهما، والحُجّةُ في ذلك أن أصل الخبر أن يكون مفردًا على ما تقدّم، والجملةُ واقعةٌ موقعه، ولا شكَّ أن إضمار الأصل أولى، ووجةٌ ثان انّك إذا قدّرتَ فعلاً كان جملةً، وإذا قدّرتَ اسمًا كان مفردًا، وكُلَّما قَلَّ الإضمارُ والتقديرُ، كان أولى.
واعلم أنّك لمّا حذفت الخبر الذي هو"استقرَّ""مُسْتَقِرٌّ"، وأقمت الظرف مقامه على ما ذكرنا، صار الظرفُ هو الخبرَ، والمعاملةُ معه، وهو مُغايِرُ المبتدأ في المعنى، ونقلتَ الضمير الذي كان في الاستقرار، إلى الظرف، وصار مرتفعًا بالظرف كما كان مرتفعًا بالاستقرار، ثمّ حذفتَ الاستقرار، وصار أصلاً مرفوضًا لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه بالظرف. وقد صرّح ابنُ جِنِّي بجوازِ إظهاره. والقولُ عندي في ذلك أن بعد حذف الخبر الذي هو الاستقرار، ونقل الضمير إلى الظرف، لا يجوز إظهارُ ذلك المحذوفِ؛ لأنه قد صار أصلًا مرفوضًا، فإِن ذكرته أوّلًا، وقلت:"زيدٌ استقرّ عندك"، لم يمنع منه مانعٌ.
واعلم أنّك إذا قلت:"زيدٌ عندك" فـ "عِنْدَكَ" ظرفٌ منصوب بالاستقرار المحذوفِ سواء كان فعلاً أو اسمًا، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ، والظرفُ وذلك الضميرُ في موضع رفعٍ بأنّه خبرُ المبتدأ. وإذا قلت:"زيدٌ في الدار أو من الكرام"، فالجارُّ والمجرورُ في موضع نصب بالاستقرار على حد انتصابِ "عِنْدَكَ" إذا قلت: "زيدٌ عندك"، ثمّ الجارُّ والمجرورُ والضمير المنتقلُ في موضع رفعٍ بأَنّه خبرُ المبتدأ. وذهب الكوفيون (١) إلى أنّك إذا قلت: "زيدٌ عندك، أو خَلْفَك" لم ينتصب "عندك" و"خلفك" بإضمار فعلٍ ولا بتقديره، وإنّما ينتصب بخِلافِ الأوّل، لأنّك إذا قلت:"زيدٌ أخوك" فـ "زيدٌ" هو الأخُ، فكلُّ واحد منهما رَفَعَ الآخر، وإذا قلت:"زيدٌ خَلْفَك" فإن "خَلْفَكَ" مخالفٌ لـ "زيدٌ" لأنّه ليس إيّاه، فنصبناه بالخلاف. وهذا قولٌ فاسد, لأنّه لو كان الخلافُ يُوجِب النصبَ، لانتصب الأوّلُ كما ينتصب الثاني, لأنّ الثاني إذا خالَفَ الأوّل، فقد خالف الأوّلُ الثاني أيضًا, لأنّ
(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين. ص ٢٤٥ - ٢٤٧.