لسكونِ ما قبل الواو صحّت العينُ في "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، و"صَيِدَ"، فصارت صحّةُ العين في "عَوِرَ" أمارةً على أنّه في معنى "اعْوَرَّ" ولو لم تُرِد هذا المعنى لأعللتَه، وقلتَ:"عارت عينُه"، و"صاد البعيرُ"، وقد قالوا:"عارت عينُه تَعارُ", وهو قليل مسموع ولا يقال في "حَوِلَت عينُه" حالت قال الشاعر [من الوافر]:
تْسائِل بابْنِ أَحْمَرَ مَن رَآهُ ... أَعارَت عينُه أم لم تَعارا
كأنَّه "تَعارَنْ" بالنون الخفيفة المؤكّدة، وإنّما أبدل منها ألف الوقف. ومن ذلك:"اعْتَوَنُوا"، و"ازْدَوَجُوا"، و"اجْتَوَرُوا"، والمراد: تَعاونوا، وتَزاوجوا، وتَجاوروا، فلمّا صحّت فيما ذكرناه لوقوع الألف قبلها، فلم يمكن نقلُ حركة العين إليها مع أنّك لو قلبتَ الواو لالتقت مع الألف قبلها فكان يؤدّي إلى حذف إحداهما فيؤول اللفظ إلى "تَعانوا"، و"تَزاجوا" فيزول بناء "تَفاعلوا" وهم يريدون معناه، ثمّ صحّحوا ما كان في معناه ليكون أمارة على ذلك كما قلنا في "عَوِرَ"، و"حَوِلَ". وكذلك إذا لحقته الزيادة؛ نحو: الهمزة، للنقل في قوِلهم:"أَعْوَرَ الله عينه"، و"أَصْيَدَ بعيرَه" فإنّك لا تُعِلّه بقلبه ألفًا كما أعللتَه في "أَقام"، و"أَباع" إئما اعتلّا لاعتلالِ فَعَلَ منهما قبل النقلِ، ألا ترى أنّ الأصل قامَ، وباعَ، ثم نقلتَ الفعل بهمزة، فقلت:"أقام"، و"أباع"، و"أعْوَرَ" لم ينقل من "عارَ" فيجبَ إعلالُه لاعتلالِ "فَعِلَ" منه بغير زيادة. ولو بنيت منه "استفعلت" لقلت: "استعوَرْتُ" فكنت تُصحِّحه ولا تُعِّله كما تُعِلّ "استقمتُ" لصحّةِ "عَوِرَ" واعتلالِ "قامَ". وأمّا "لَيْسَ" فإنّها مخفّفة من "لَيِسَ" مثلَ "عَلْمَ" وإنّما قلنا ذلك، لأنّها فعلٌ إذ كان الضمير المرفوع يتّصل بها على حدّ اتّصاله بالأفعال؛ من نحو: لسْتُ، ولَسْنَا, ولَسْتُمْ، فإذا ثبت أنّها فعلٌ فلا يجوز أن تكون "فَعَلَ" بالفتح، لأنّ هذا لا يجوز إسكانه لخفّة الفتحة ألا ترى أنّ من قال في "عَلِمَ"، "عَلْمَ" بسكون اللام، وفي "عَضُدٍ": "عَضْدٌ" بسكون الضاد لم يقل في مثلِ "قَتَلَ": "قَتْلَ". ولم تكن "فَعُلَ" بالضمّ لأنّ هذا المثال لا يكون في ذوات الياء. وإذا بطل هذا تَعيّن أنّ تكون "فَعِلَ" كـ"صَيْدَ البعيرُ"، وأصله صَيِدَ بالكسر إلاّ أنّك في صيد تستعمل الأصلَ والفرعَ لأنّه متصرّف، و"لَيسَ" لمّا لم يريدوا فيها التصرّفَ ألزموها السكونَ، وأجروها مجرى ما لا تصرّفَ له وهو "لَيْتَ".
وقوله: لم يجعلوها على لفظَ "صَيِدَ" ولا "هَابَ" يعني لمّا لم يَرِدْ في "لَيْسَ" التصرّفُ لغَلَبة شَبَه حرف النفي عليه سلبوه ما للأفعال من التصرّف، ونَقْلِ حركة العين إلى الفاء كما فعلوا ذلك في نحو: هِبْتُ، وكِدْتُ، حتّى سلبوه لفظَ الفعل مبالغةً في الإيذان بقوّة معنى الحرفيّة عليه، فلم يجعلوه كـ"صَيِدَ" ونحوه ممّا صحّ، ولا كـ"هَابَ" ونحوه ممّا اعتلّ بل على لفظ الحرف المحض كلَيْتَ. وقد بالغ في ذلك من منعه العملَ، وقال:"ليس الطِيبُ إلاّ المِسْكُ" وقد صحّحوا "أَفْعَلَ" التعجّبِ أيضًا في نحو قولهم: "ما أَقْوَمَهُ"، و"ما أَبْيَعَهُ" وذلك حين أرادوا جمودَه، وعدمَ تصرُّفه، ولذلك لم يأتوا له