والغرضُ بذلك طلبُ التخفيف, لأنّه ثقُل عليهم التكريرُ والعودُ إلى حرف بعد النطق به، وصار ذلك ضِيقًا في الكلام بمنزلة الضيق في الخَطْو على المقيَّد, لأنّه إذا منعه القيدُ من توسيع الخَطْو، صار كأنّه إنّما يُقيَّد قَدَمُه إلى موضعها الذي نقلها منه، فثقُل ذلك عليه، فلمّا كان تكريرُ الحرف كذلك في الثقل، حاولوا تخفيفَه بأن يدّغموا أحدهما في الآخر، فيضعوا ألسنتهم على مَخْرج الحرف المكرَّر وضعةً واحدةً، ويرفعوها بالحرفَيْن رفعةً واحدةً، لئلا ينطقوا بالحرف، ثمّ يعودوا إليه , وهذا المراد من قوله:"ثقل التقاء المتجانسين على ألسنتهم"، أي: المِثْلَيْن اللذَيْن من جنس واحد، فإذا أسكنوا الأوّل منهما ادّغموا، فيتّصل بالثاني، وإذا حرّكوه، لم يتّصل به لأنّ الحركة تحول بينهما, لأنّ محلّ الحركة من الحرف بعده، ولذلك يمتنع ادّغامُ المتحرّك.
والمدّغَم أبدًا حرفان: الأوّل منهما ساكنٌ والثاني متحرّكٌ. وجميعُ الحروف تُدّغَم ويُدّغَم فيها إلَّا الألفَ؛ لأنّها ساكنة أبدًا، فلا يمكن ادّغامُ ما قبلها فيها ولا يمكن ادّغامُها, لأن الحرف إنّما يُدّغَم في مثله، وليس الألف مثلَ متحرّك، فيصحَّ الادّغام فيها.
واعلم أن التقاء المثلين على ثلاثة أضرب:
أحدها أن يسكن الأوّل ويتحرّك الثاني، وهذا شرط المدّغَم، فيحصل الادّغامُ ضرورةً سواءٌ أريد أو لم يُرَد، إذ لا حاجزَ بينهما من حركة ولا غيرها، نحو:"لم يرح حاتم"، و"لم أقل لك"، فالادّغامُ حصل فيهما ضرورةً, لأنّ الأوّل اتّصل بالثاني من غير إرادة لذلك، ألا ترى أنّ إسكان الأوّل لم يكن للادغام بل للجازم، فوُجد شرطُ الادغام بحكم الاتّفاق من غير قصد، وذلك بأن اعتمد اللسان عليهما اعتمادةً واحدةً , لأنّ المَخْرج واحدٌ ولا فَصْلَ.
وأمّا الثاني وهو أن يكون المِثْل الأوّل متحرّكًا، والثاني ساكنًا، نحو:"ظلِلْت"، و"رسولُ الحسن". وما كان كذلك، فإنّ الادغام يمتنع فيه لأمرين: أحدهما تحرُّكُ الأوّل، والحرفُ الأوّلُ متى تحرّك امتنع الادغام, لأنّ حركة الحرف الأوّل قد فصلت بين المتجانسَيْن، فتَعذّر الاتّصال. والأمر الثاني، سكون الحرف الثاني، والادغامُ لا يحصل في ساكن؛ لأنّ الأوّل لا يكون إلا ساكنًا، فلو أُسكن الثاني، لاجتمع ساكنان على غير شرطه، وذلك لا يجوز.
وأمّا الثالث، وهو أن يتحرّكا معًا، وهما سواء في كلمة واحدة، ولم يكن الحرف مُلْحِقًا قد جاوز الثلاثةَ، ولا البناء مخالفًا لبناء الفعل، فإنّه يجب أن يُدّغَم بأن يسكن المتحرّكُ الأولُ لِتزولَ الحركةُ الحاجزةُ، فيرتفع اللسانُ بهما ارتفاعة واحدةً، فيخفّ اللفظ، وليس فيه نقضُ معنى، ولا لبسٌ، وذلك نحو:"رَدَّ يَرُدُّ"، و"شَدَّ يَشُدَّ"، فكلُّ العرب يدغم ذلك.