للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النفيَ العامّ. قال الله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (١). وقال: {لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} (٢)، وموضع "لا" وما عملت فيه مبتدأ, لأنها جوابُ ما حالُه كذلك، ألا ترى أنّ قولك: "هل من رجل في الدار؟ " في موضع رفع بالابتداء؟ كذلك "لا رجل". فإن قدّرت دخولَها على كلام قد عمل غيرُها فيه، لم تعمل فيه شيئًا، وكان الكلامُ على ما كان عليه مُوجبًا، وذلك قولُك: "أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ " فتقول: "لا زيدٌ في الدار ولا عمرٌو". وكذلك تقول: "أرجلٌ في الدار أم امرأةٌ؟ " والجوابُ: لا رجلٌ في الدار ولا امرأةٌ. وكذلك إنْ جعلتها جوابًا، كقولك: "هل رجلٌ في الدار"؟ قلت: "لا رجلٌ في الدار". وهذا قليلٌ إذ كان التكريرُ والبناءُ أغلب عليها، وكان هذا في مواضع "لَا" و"نَعَمْ".

واعلم أنّه قد ذهب الكوفيون (٣) وأبو إسحاق الزجّاجُ وجماعةٌ من البصريين إلى أنّ حركة "لا رجلَ"، و"لا غلامَ" حركةُ إعراب، واحتجّوا لذلك بقولهم: "لا رجلَ وغلامًا عندك"، بالعطف على اللفظ، فلولا أنّه معربٌ، لم يجز العطفُ عليها لأن حركة البناء لا يُعْطَف عليها؛ لأنّه إنما يُعْطَف للاشتراك في العامل. والقول هو الأوّل لحذف التنوين منه، إِذ لو كان معربًا لثبت فيه التنوين كما ثبت في قولك: "لا خيرًا منك في الدار"، ونحو ذلك من الموصوفات. وأمَّا قولهم: إنه جاز العطفُ على اللفظ، نحو: "لا رجل وغلامًا"، فتقول: إنّما جاز كما جاز فيه الوصف على اللفظ، نحو: "لا رجلَ ظريفًا" بالتنوين، وذلك من قِبَل أنها، وإن كانت حركة بناء، فهي مشبَّهةٌ بحركة الإعراب، وذلك لاطرادها في كل نكرةٍ منفيةٍ بـ"لا" من غير اختصاص باسم بعَيْنه، فجرتْ لذلك مجرى العامل الذي يعمل في كل اسم يباشِره ويلاقِيه. ومثله الضمّةُ في الاسم المفرد المنادَى العَلَمِ، نحو: "يا حَكَمُ"، لاطرادها في كلّ منادى مفردٍ علمٍ.

واعلم أن أصحابنا قد اختلفوا في رفع خبر "لا" فذهب بعضهم إلى أنها لا تعمل في الخبر لضُعْفها عن العمل في شيئين بخلاف "إنَّ" فإنّها مشبَّهةٌ بالفعل، فنصبت، ورفعت كالفعل، و"لا" هذه لا تُشْبِه الفعلَ، وإنّما تُشْبِه "إنَّ" المشدَّدة، فجرت مجرى الحروف الناصبة للفعل، نحو: "أن" و"لَنْ"، وهي لا ترفع شيئًا كذلك هذه. وذهب أبو الحسن ومن يتبعه إلى أنّ "لا" هذه ترفع الخبرَ، وذلك لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، فهي تقتضيهما جميعًا. وما اقتضى شيئين وعمل في أحدهما، عمل في الآخر. وليس كذلك نواصبُ الأفعال، لأنّها لا تقتضي إلا شيئًا واحدًا وهو المختارُ. وأمّا الكوفيون فالخبرُ عندهم مرفوعٌ بالمبتدأ على ما كان، وهي قاعدتهم في "إنَّ" وأخواتها (٤).


(١) هود: ٤٣.
(٢) التوبة: ١١٨.
(٣) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ٢٦٦ - ٢٧٠.
(٤) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ١٧٦ - ١٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>