للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أنّ "ما" حرفُ نفي يدخل على الأسماء والأفعال. وقياسه أن لا يعمل شيئًا، وذلك لأن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال، وعوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء على حدِّ همزة الاستفهام، و"هل". ألا ترى أنك لمّا قلت: "هل قام زيدٌ؟ " و"هل زيدٌ قائمٌ؟ " فولِيَه الفعلُ والفاعل، والمبتدأ والخبرُ، لم يجز إعمالها في شيء من الأسماء والأفعال لعدم اختصاصها؟ فهذا هو القياسُ في "ما"؛ لأنّك تقول: "ما قام زيدٌ" كما تقول: "ما زيدٌ قائمٌ"، فيَلِيها الاسمُ والفعلُ، غير أنّ أهل الحجاز يشبهونها بـ"لَيْسَ" ويرفعون بها الاسم، وينصبون بها الخبر كما يُفْعَل بـ "لَيْسَ". كذلك تقول: "ما زيدٌ منطلقًا"، و"ما أخوك خارجًا"، فاللغة الأولى أقيسُ، والثانيةُ أفصحُ، وبها ورد الكتابُ العزيزُ قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (١)، وقال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (٢). ويُرْوَى عن الأصمعي أنّه قال ما سمعته في شيء من أشعار العرب، يعني نصبَ خبر "ما" المشبَّهة بـ "لَيْسَ"، و"ما" هذه، وإن كانت مشبَّهةً بـ "ليس" وتعمل عَمَلَها، فهي أضعفُ عملًا منها, لأنّ "لَيْسَ" فعلٌ و"ما" حرفٌ، ولذلك من الضُّعْف إذا تقدّم خبرُها على اسمها أو دخل حرفُ الاستثناء بين الاسم والخبر؛ بطل عملُها، وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، نحو قولك: "ما قائمٌ زيدٌ"، و"ما مُسِيءٌ من أعْتَبَ"، و"ما زيدٌ إلَّا قائمٌ". قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (٣)؛ وأمّا "لَيْسَ" فإنّها تعمل على كلّ حال. تقول: "ليس زيدٌ قائمًا"، و"ليس قائمًا زيدٌ"، و"ليس زيدٌ إلَّا قائمًا"، ووجه الشبه بين "لَيْسَ" و"ما" أنّهما جميعًا لنفي ما في الحال، وأنّ "لَيْسَ" مختصّةٌ بالمبتدأ والخبر، فإذا دخلت "ما" على المبتدأ والخبر، أشبهتها من جهة النفي ومن جهة الدخول على المبتدأ والخبر، وكذلك إذا قلتَ: "ما زيدٌ إلَّا قائمٌ"، لم يكن لها عملٌ لانتقاض النفي بدخولِ "إلَّا"، وكذلك إذا تقدّم الخبرُ، نحوَ: "ما قائمٌ زيدٌ", لأن نَضْدَ الابتداء والخبرِ قد غُيِّرَ.

وذهب الكوفيون (٤) إلى أن خبرَ "ما" في قولك: "ما زيدٌ قائمًا" ليس منتصبًا بـ "ما"، وإنّما هو منصوبٌ بإسقاط الخافض، وهو الباء كأنّ أصله: "ما زيدٌ بقائم". فلمّا سقطت الباء انتصب الاسمُ. وهذا غير مرضيّ, لأنّ الخافض إذا سقط إنّما ينتصب الاسمُ بعده إذا كان الجارُّ والمجرورُ في موضع نصب، فإذا سقط الخافض، وصل الفعل أو ما هو في معناه إلى المجرور، فنَصَبَه. فالنصبُ إنّما هو بالفعل المذكور لا بسقوط الخافض. ألا ترى أنك تقول: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (٥)، فيكون


(١) يوسف: ٣١.
(٢) المجادلة: ٢.
(٣) آل عمران: ١٤٤.
(٤) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريبن والكوفيين، ص ١٦٥ - ١٧٣.
(٥) الرعد: ٤٣؛ والإسراء: ٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>