للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جعلها نفسَ الإقبال والإدبار مبالغةً وتوسّعًا، فالرفع في ذلك كلِّه على ما ذكرتُ لك، والنصبُ على تقديرِ فعل مضمر لا يظهَر، إذ قد صار المصدرُ بَدَلًا منه، فقولُك: "إنّما أنت سيرًا سيرًا، وما أنت إلَّا قتلًا قتلًا" معناه: تسِير سيرًا سيرًا، وتقتل فتلًا قتلًا.

وقوله: "إلَّا سيرَ البَرِيد، وإلَّا ضربَ الناس، وإلَّا شُرْبَ الإبِل" معناه ما أنت إلا تسِير سيرًا مثلَ سيرِ البريد، وما أنت إلَّا تشرَب شُرْبًا مثلَ شُرْب الإبل، ثمّ حذف الموصوفَ، وأقام الصفةَ مقامَه، ثمّ حذف المضافَ، وهو "مِثْلَ" وأقامَ المضافَ إليه مقامَه على حدِّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (١)، وهذا الحذفُ، والإضمارُ، وإن كثُر، فهو فاشٍ في كلام العرب مطّرِدٌ؛ وأمّا "ضَرْبَ الناس"؛ فتقديرهُ: ما أنت إلَّا تضرِب الناسَ ضربًا. ويجوز في هذا وحدَه التنوينُ، ونصبُ "الناس" لأنّه مصدرٌ مضافٌ إلى مفعول ولا يكون مضافًا إلى الفاعل لأنّه يصير معناه: يضربه مثل ضربِ الناس، وهو من الناس إلَّا أن يريد أن يضربه الضربَ المعهودَ المتعارَفَ، فحينئذ يكون من قبيلِ "شُرْبِ الإبل" و"سيرِ البريد".

وأمّا قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (٢) فالمعنى: فإمّا أن تَمُنُّوا مَنَّا، وإمّا أن تُفادوا فِداء، فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر.

وأمّا قولهم: "مررتُ فإذَا له صوتٌ صوتَ حمارٍ" إلخ، فهو منصوبٌ، وفي نصْبه وجهان:


= ٤٣١، ٢/ ٣٤؛ وشرح أبيات سيبويه ١/ ٢٨٢؛ والشعر والشعراء ١/ ٣٥٤؛ والكتاب ١/ ٣٣٧؛ ولسان العرب ٧/ ٣٠٥ (رهط)، ١١/ ٥٣٨ (قبل)، ١٤/ ٤١٠ (سوا)؛ والمقتضب ٤/ ٣٠٥؛ والمنصف ١/ ١٩٧؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٣٨٧، ٤/ ٦٨؛ وشرح الأشموني ١/ ٢١٣؛ والمحتسب ٢/ ٤٣.
اللغة: ترتع: ترعى. اذَّكرْت: تذكَّرَتْ.
المعنى: تريد الخنساء أنَّ حالها وقد فَقَدَتْ أخاها صخرًا كحال ناقة فقدت وليدها فَمَا تشغل عنه بالرعي حتى تتذكره، فتهيج مقبلة، ومدبرة.
الإعراب: "ترتَعُ": فعل مضارع مرفوع، فاعله مستتر تقديره: "هي". "ما": مصدرية زمانية. "غفلت": فعل ماضٍ مبني على الفتح، والتاء للتأنيث لا محل لها، والفاعل مستتر تقديره: "هي". "حتى": حرف غاية وابتداء. "إذا": ظرفية شرطية غير جازمة محلها النصب متعلقة بجوابها. "اذَّكرت": مثل "غفلتْ". "فإنما": الفاء: رابطة لجواب الشرط، "إنما" كافة ومكفوفة. "هي": مبتدأ محله الرفع. "إقبالٌ": خبر مرفوع. "وإدبار": الواو: حرف عطف، "إدبار" معطوف على "إقبالٌ". والمصدر المؤول من "ما" والفعل "غفلت" منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل "ترتع".
جملة "تَرْتَع": صفة لـ"عجولٌ" محلها الرفع، وجملة "غفلت": صلة الموصول الحرفي لا محل لها من الإعراب، وجملة "إذا اذَّكرت فإنما هي إقبال وإدبار": استئنافية لا محل لها، وجملة "اذَّكرت": في محل جر بالإضافة. وجملة "هي إقبال": جواب شرط غير جازم لا محل لها.
والشاهد فيه: أنَّ اسم المعنى يصح وقوعه خبرًا عن اسم العين إذا لزم ذلك المعنى لتلك العين حتى صار كأنه هي. وهذا واضحٌ في قول الخنساء: هي إقبال وإدْبار.
(١) يوسف: ٨٢.
(٢) محمَّد: ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>