غيرَ أنّ المنادى قد يكون بعيدًا منك، أو غافلاً، فإذا ناديتَه بـ "أنتَ" أو "إياك"، لم يعلم أنّك تخاطِبه، أو تخاطب غيرَه، فجئتَ بالاسم الذي يُخصّه دون غيره، وهو "زيدٌ"، فوقع ذلك الاسم موقعَ المكني، فتبنيه لِما صار إليه من مشاركةِ المكني الذي يجب بناؤه.
فإن قيل: فالمنادى المنكور والمضافُ قد وقعا الموقعَ الذي ذكرتَه من حيثُ أنّهما مخاطَبان، فالجوابُ عنه من وجهَيْن:
أحدُهما: أنّ المنادى المفرد المعرفةَ إنّما بُني مع وُقوعه الموقع الذي وصفناه، لأنّه في التقدير بمنزلةِ "أنتَ"، و"أنتَ" لا يكون إلّا معرفةً غيرَ مضاف، فخرج المنكورُ، إذ كان مخالِفًا لـ "أنتَ" من جهةِ التنكير، والمضافُ, لأنّ "أنتَ" غير مضاف، فلم يُبْنَ لذلك مع تمكُّنه بالإضافة.
والوجه الثاني: أنّ المفرد يُؤثِّر فيه النداءُ ما لم يؤثر في المضاف والنكرةِ، فالمضافُ معرفةٌ بالمضاف إليه، كما كان قبل النداء، والنكرةُ في حال النداء كما كانت قبل ذلك و"زيدٌ"، وما أشبَهه في حال النداء معرفة بالإشارة، والإقبالِ عليه منتقلٌ عنه ما كان فيه قبل ذلك من التعريف، فلمّا لم يؤثر النداءُ في معناه لم يؤثّر في بنائه.
فإن قيل: فلِمَ بُني على حركة؟ ولِمَ كانت حركتُه ضمّةً؟ فالجوابُ: أمّا تحريكُه، فلأنّ له أصلاً في التمكن، فوجب أنّ يُميز عن ما بُني، ولا أصلَ له في التمكّن، فبُني على حركةٍ تمييزًا له عن مثلِ "مَنْ" و"كَمْ" وغيرهما ممّا لم يكن له سابِقةُ إعراب، وخُصّ بضمّ لوجهَيْن:
أحدُهما: شبَهُه بالغايات، نحو:"قَبْلُ"، "وبَعْدُ"، ووجهُ الشَبَه بينهما أنّ المنادى إذا أضيف، أو نُكّر، أُعرب؛ وإذا أُفرد بُني كما أنّ "قبل"، و"بعد" تُعْرَبان مضافتَيْن ومنكورتَيْن، وتُبْنَيان في غيرِ ذلك فكما بُني "قبل" و"بعد" على الضمّ كذلك المنادى المفرد يُبْنَى على الضمّ.
والثاني: أنّ المنادى إذا كان مضافًا إلى مُنادِيه، كان الاختيارُ حذفَ ياء الإضافة والاكتفاءَ بالكسر منها، وإذا كان مضافًا إلى غائب، كان منصوبًا، وكذلك إذا كان منكورًا. فلمّا كان الفتحُ والكسرُ في غير حال البناء، وبُني، جُعل له في حال البناء من الحركات ما لم يكن له في غير حال بنائه، وهو الضمُّ، فذلك علّةُ بنائه على الضمّ.
وانتصابه محلاًّ قولُهم:"يا أيُّها الرجلُ" فـ "أي" منادى مبهمٌ مبنيٌّ على الضمّ لكونه مقصودًا مشارًا إليه بمنزلةِ "يا رجلُ"، و"هَا" تنبيهٌ، و"الرجلُ" نَعْتٌ. والغرضُ نداءُ الرجل، وإنّما كرِهوا إيلاء أداةِ النداء ما فيه الألفُ واللامُ، فأتوا بـ "أي" وُصْلةً إلى نداء ما فيه الألفُ واللامُ، فصار "أيُّ" و"هَا" وصفتُه بمنزلةِ اسم واحد، ولذلك كانت صفةً لازمةً.