للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من المضمر في الجارّ والمجرور، وهو العاملُ فيها لنِيابَته عن الاستقرار، فهذا العاملُ معنَى فعل، لأنّ لفظ الفعل ليس موجودًا، هذا إذا جعلتَه ظرفا لزيدٍ، ومستقَرًّا له. فإن جعلتَه ظرفًا للقائم، قلت: "زيدٌ في الدار قائمٌ"، فترفع "قائمًا" بالخبر، ويكون الظرفُ صلةً له.

واعلم أنّه إذا كان العاملُ فيها فعلًا جاز تقديمُ الحال عليه، فتقول: "جاء زيدٌ قائمًا"، و"جاء قائمًا زيدٌ"، و"قائمًا جاء زيدٌ". كلُّ ذلك جائزٌ لتصرُّفِ الفعل. وكذلك ما أشْبَهَه من الصفات يجوز تقديمُ الحال عليه إذا كان عاملًا فيها، فتقول: "زيدٌ ضاربٌ عمرًا قائمًا"، و"قائمًا زيدٌ ضاربٌ عمرًا"، وكذلك اسمُ المفعول والصفةُ المشبَّهةُ باسم الفاعل. حُكْمُ الجميع شيءٌ واحدٌ.

فإن كان العاملُ في الحال معنَى فعل، لم يجز تقديمُها على العامل. تقول: "فيها زيدٌ مُقِيمًا"، و"عندك عمرٌو جالِسًا"، فـ "زيدٌ" مرتفِعٌ بالابتداء، "وفِيهَا"، الخبرُ قد تقدّم، و"مقيمًا" حالٌ من المضمر في "فِيهَا" والعاملُ فيها الجارُّ والمجرورُ لِنيابَته عن الفعل الذي هو اسْتَقَرَّ، فقولُك: "عندك" ظرفٌ منصوبٌ بِـ "استقرّ" العاملِ المقدَّرِ. وكذلك "فِيهَا" في محلِّ نصب بِـ "استقر" المقدَّرِ، وهذا الظرفُ والضميرُ الذي فيه في محلّ مرفوع على الخبر. وليس الظرفُ خبرًا في الحقيقة إذا كان مفردًا، وليس الأوّلَ، وإنّما هو موضعٌ له ومكانٌ. وإذا كان كذلك، فالعاملُ إذا معنَى الفعل، لا لفظُه. ألا ترى أنّ الفعل ليس موجودًا في اللفظ، ولذلك لا تقول: "مُقيمًا فيها زيدٌ": فتُقدَّمَ الحالَ هنا، إذ كان العاملُ معنًى.

هذا مذهبُ سيبويه (١) في أنّ الاسمَ يُرفَع بالابتداء. وقال الكوفيون (٢): إذا تقدّم الظرفُ ارتفع الاسمُ به، وإذا تأخّرَ ارتفع الاسم بضمير مرفوع في الظرف، وحُجَّةُ سيبويه أنّا رأيناهم إذا أدخلوا على الظرف "إنَّ" وَنَحْوَها من عوامل الابتداءِ، انتصب الاسمُ بعد الظرف بها، كقولك: "إنّ في الدار زيدًا". فلو كان "في الدَارِ" يرفع "زيدًا" قبلَ دخولِ "إنَّ"، لَمَا غيّرتْها "إنَّ" عن العمل، كما أنا لو قلنا: "أنْ يقومَ زيدٌ". لم يجز أن يبطُل عملُ: "يَقُومَ" في "زيدٍ"، بل يُقال: "أن يقومَ زيدٌ". كذلك "إنَّ في الدار زيدًا".

وممّا يدلّ على بُطْلانِ ما قالوه إجماعُهم على جوازِ "في داره زيدٌ". فلو كان ارتفاعُ "زيد" بالظرف، لم تجز المسألةُ؛ لأنّ فيها إضمارًا قبل الذِّكْر، إذ الظرفُ قد وقع في مَرْتَبته، فلم يجز أن يُنْوَى به التأخيرُ، وإنّما يُجِيز سيبويه وأصحابُه: "في داره زيدٌ" لأنّه خبرٌ قُدّم اتّساعًا، فجاز أن يُنوَى به التأخير إلى موضعه، فاعرفه. فعلى هذا يكون الظرف


(١) الكتاب ٢/ ٨٨.
(٢) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ٥١ - ٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>