للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ووجة ثالثٌ: أن المراد ما بيّن النوعَ، فبُيّن بالنكرة, لأنّها أخفُّ الأسماء، كما تُختار الفتحة إذا أُريد تحريكُ حرفٍ لمعنًى, لأنّ الفتحة أخفُّ الحركات، إلَّا أن يعرِض ما يوجِب العُدولَ عنها إلى غيرها، وكانت جنسًا, لأنّ الغرض تخليصُ الأجناس بعضِها من بعضٍ، وقُدّرت بِـ "من" لأنّها لبيانِ الجنس، فأُتي بها لذلك، وحُذفت تخفيفًا، وهي مرادةٌ.

واعلم أنّ المميّز يكون واحدًا، ويكون جمعًا، فإذا وقع بعد عددٍ، نحو: "عشرين"، و"ثلاثين"، ونحوهما، لم يكن المميّزُ إلَّا واحدًا، نحو قولك: "عندي عشرون ثَوْبًا، وثلاثون عِمامةً", لانّ العدد قد دلّ على الكَمّيّة، ولم يبق بنا حاجةٌ إلَّا إلى بيانِ نوعِ ذلك المَبْلَغ، وكان ذلك ممّا يحصُل بالواحد، وهو أخفُ.

وأمّا إذا وقع مُفسّرًا لغيرِ عدد، نحو: "هذا أفرهُ منك عبدًا وخيرٌ منك عَمَلاً"، جاز الإفرادُ والجمعُ لاحتمالِ أن يكون له عبدٌ واحدٌ وعبيدٌ، فإذا قلت: "هو أفرهُ منك عبيدًا"، أو"خيرٌ منك أعمالاً"، دللتَ بلفظ الجمع على معنيَيْن: النوع، وأنّهم جماعةٌ. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (١) فُهم من ذلك النوع، وأنّه كان من جهاتٍ شتَّى، لا من جهة واحدة، وإذا أَفردتَ، فُهم منه النوع لا غير.

وقوله: "وشَبَهُ التمييز بالمفعول" يعني أنّ موقعه في هذه الأمثلة كموقعه، يعني أنّ التمييز يُشبِه المفعولَ من حيثُ إنّ موقعه آخِراً، نحوَ: "طاب زيدٌ نفسًا"، و"هذا راقودٌ خَلاًّ"، كما أن المفعول كذلك، فإنّه يأتي فضلةً بعد تمامِ الكلام. ونعني بقولنا: "فضلةً" أنه يأتي بعد استقلالِ الفعل بفاعله، كما أنّ المفعول كذلك، ولذلك وجب أن يكون منصوبًا كما أنّ المفعول كذلك.

فإن قيل: لِمَ زعمتَ أن التمييز مشبَّةٌ بالمفعول، ولم تقل: إِنّه مفعولٌ في الحقيقة؟ قيل: أمّا ما كان من نحوِ "عشرين درهمًا"، و"راقودٌ خلاًّ"، وشِبْهِه، فإنّ العامل فيه معنًى، والمعاني لا تعمل في المفعول به؛ وأمّا ما كان من نحوِ: "طاب زيدٌ نفسًا، وتصبّب عرقًا، وتفقّأ شحمًا"، فإنّه وإن كان العاملُ فيه فعلًا، فإنّ الفعل فيه غيرُ متعدّ، فـ "طَابَ" فعلٌ غيرُ متعدّ, لأنّه إذا طاب في نفسه لا يفعل بغيره شيئًا. وأمّا "تصبّب" و"تفقأ" ففعلان لازمان، لأنّهما للمطاوَعة، فالتاءُ ههنا بمنزلة النون، يقال: "صببتُه، فتَصبّبَ "، و"فقأتُه، فتَفقّأَ"، كما تقول: "صببتُه، فانصبَّ"، و"فَقَأْتُه فانفقأَ"، ولذلك لا تقول: "تصبّبتُه"، ولا "تفقّأتُه"، ويثبُت بذلك أنَّه مشبَّةٌ بالمفعول، وليس مفعولًا، فقولُك: "طاب زيدٌ نفسًا" بمنزلةِ "ضَرَبَ زيدٌ عمرًا" في وُقوعه طَرَفًا بعد التَّمام، كوقوعِ


(١) الكهف:١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>