وقال أبو العبّاس المبرّدُ: إنّما لزمت هذه الظروفُ الإضافةَ لعدمِ إفادتها مفردةً، ألا ترى أنّك إذا قلت:"جلستُ خلفًا"، فالمخاطبُ يعلم أنّ كلَّ مكان لا بدّ أن يكون خلفًا لشيء، فإذا أضفتَه، عُرف، وحصل منه فائدةٌ.
وقال الكوفيون إنّما لزمَتِ الإضافةَ لأنّها تكون أخبارًا عن الاسم، كما يكون الفعلُ خبرًا عن الاسم إذا قلت:"زيدٌ يذهَب، ويركَب"، فلمّا كان الفعلُ يحتاج إلى فاعلٍ، وقد يتّصِل به أشياءُ يقتضيها من المصدر، والمكانِ، والزمانِ، والمفعول، ألزموا الظرفَ الإضافةَ، ليسُدّ المضافُ إليه مَسَدَّ ما يطلُبه الفعلُ، ويدلّ عليه.
فإذا أُفردت، وقيل:"قام زيدٌ خَلْفًا"، و"ذهب عمرٌو قُدّاما"، فهو عند البصريين نصبٌ على الظرف، كما يكون مضافًا، نحوَ "قام قُدّامَك" و"ذهب خَلْفَك"، إلَّا أنّه مبهمٌ منكورٌ، كأنّك قلت:"قام خَلْفَ غيرِه"، و"ذهب قدّامَ شيءٍ". ومنع الكوفيون من ذلك، وقالوا لا تكون ظروفًا إلَّا مضافةً، وإذا أُفردت، صارت أسماءً، وكانت في تقديرِ الحال، كأنّه قال:"قام متأخَّرًا وذهب متقدمًا". وفائدة الخلاف تظهر في الخبر، فعند البصريين تقول:"زيدٌ خَلْفًا، وعمرو قدامًا"، فيكون خبرًا، كما يكون مضافًا. والكوفيون يرفعون، ويقولون: زيدٌ خَلْفٌ، أي: متأخر، وقُدّامٌ أي متقدِّمٌ. ويكون الخبرُ مفردًا هو الأوّلَ كما تقول:"زيدٌ قائمٌ".
ومن ذلك "عِنْدَ" و"لَدُنْ" و"لَدَى"، وهي ظروفٌ، معناها القُرْبُ والحَضْرَةُ، ولذلك لزمتِ الإضافةَ للبَيان، إذ كانت مبهمةً، لأنّها لا تختصّ مكانًا معيَّنًا, لأنّ القرب والمُجاوَرَة أمرٌ إضافيٌّ، إذ الشيءُ يكون قريبًا من شخصٍ، بعيدًا من آخرَ. وهي لابتداءِ الغاية في الزمان والمكان، وذلك قولك:"من لَدُنْ صَلاة العَصْر إلى وقتِ كذا". و"من لدن الحائط إلى مكانِ كذا" فهي مشترِكةٌ في البابَيْن، وليست كـ "مُنْذُ" الذي هو ابتداءُ غايةِ الزمان، ولا كـ "مِنْ" الذي هو ابتداءُ غايةِ المكان.
وفي "عند" لغتان: "عَنْدَ"، و"عِنْدَ"، بفتح العين، وكسرها، و"لَدُنْ" في معنى "عند"، إلاّ أنّ "عند" معربةٌ، و"لدن" مبنيّةٌ. وفي "لدن" ثَماني لغاتٍ، يقال:"لَدُنْ" و"لَدَى"، و"لَدَنْ" و"لَدُ" بفتح الفاء وضمِّ العين، و"لُدُ" بضمّهما، و"لَدْنِ" بفتح الفاء وسكونِ العين وكسرِ النون، و"لَدْنَ" بفتح النون، و"لَدْ" بفتح الفاء وسكون العين.
فأمّا "لَدُنْ" بفتح الفاء، وضمّ العين؛ فهو الأصلُ، لكثرته ووُرودِ التنزيلِ به، ومن قال:"لَدَنْ"، فوَجْهُه أنّه أَسكن العينَ في "لَدُنْ"، كما أسكنها في "عَضُدٍ" و"عَجُزٍ"، فالتقى بعد الحذف ساكنان: الدالُ والنونُ، فحُرّك الأوّل بالفتح كما حُرّك الأوّل منهما بالفتح، في قولهم:"اضْرِبَنْ"، إذا دخلت النونُ الخفيفةُ في "اضْرِبْ".
وأمّا "لَدَى"، فلغةٌ قائمةٌ بنفسها ليست من لفظِ "لَدُنْ"، والقياسُ في ألفها أن لا