قال الشارح: و"أفْعَلُ" الذي يراد به التفضيلُ يضاف إلى ما بعده، وحكمُه في الإضافة حكمُ "أَيٍّ"، لا يضاف إلّا إلى ما هو بعضُه، نحوَ قولك:"زيدٌ أفضلُ الناس، وأفضلُ القومُ"، أضفتَه إليهم، لأنه واحدٌ منهم. وتقول:"حِمارُك أفْرَهُ الحَمِير"، و"عبدُك خيرُ العَبِيد". فإضافةُ "أفعل" إلى ما بعده إضافةُ البعض إلى الكل، والواحد إلى الجنس، ولو قلت:"عبدُك أحسنُ الأحرار"، و"حمارُك أفرهُ البِغال" لم يجز، لأئك لم تُضِفْه إلى ما هو بعضٌ له. وإنّما وجبت إضافتُه إلى ما هو بعضٌ له، لأنك إذا أردت تفضيلَ الشيء على جنسه، فلم يكن بدٌّ من أن تُضيفه إلى الذي تُفضِّله عليه، ليُعلَم أنّه قد فضل أمثالَه من ذلك الجنس. ولو أردتَ تفضيلَه على غيرِ جنسه، لأَتَيْتَ بِ "منْ " فاصلةَ له عن الإضافة، ويكون الأوّل في حكم المنوَّن، فقلت:"عبدُك أحسنُ من الأحرار"، و"حمارُك أفرهُ من البغال".
والذي يدل على أن الأول في حكم المنوّن، إلَّا أنّه لا ينصرف لوزن الفعل والصفةِ أته إذا نقص عن وزن الفعل، يدخله التَنوينُ، نحوَ قولك:"عبدُك خيرٌ من الأحرار"، و"بَغْلُك شرٌّ من الحَمِير"، لمّا حذفت الهمزة تخفيفًا، نقص الاسمُ عن لفظ الفعل، فانصرف، والذي يدل على أن ما لا ينصرف في حكم المنؤن، وإن لم يكن فيه تنوينٌ قولُك:"هؤلاء حَواجُّ بيتَ الله، وضوارِبُ زيدًا".
واعلمْ أن إضافةَ " أفعلَ" هذه التي يراد بها التفضيلُ من الإضافات المنفصِلة غير المحضة، فلا تفيد تعريفًا, لأن النُيَّة فيها التنوينُ والانفصالُ، لتقديرك فيها "مِنْ". وإنما كانت "مِنْ" فيها مقدرةً، لأن المراد منها التفضيلُ. فإذا قلت:"زيدٌ أفضلُ من عمرو"، فقد زعمتَ أن فَضْلَ زيد ابتدأ من فضلِ عمرو راقِيًا صاعدًا في مَراتِبِ الزيادة، فعُلم بهذا أته أفضلُ من كل مَنْ كان مقدارُ فضله كفضلِ عمرو، وأنه علا من هذا الابتداء، ولم يُعلَم موضعُ الانتهاء، كما تقول:"سار زيدُ من بغدادَ " فعلِم المخاطَبُ ابتداءِ مَسِيره، ولم يعلم أَيْنَ انتهى. فلفا كان معنى الباب الدَلالةَ على ابتداءِ التفضيل على مقدارِ المفضَّل عليه وكل مَن كان في منزلته؛ لم يكن بد من الدلالة على هذا المعنى.
وقد تُحذف "مِنْ" من اللفظ تخفيفًا، ويضاف الاسم الأول إلى الثاني، وهي مرادةٌ مقدَّرةٌ، وإذا كانت "مِنْ" مقدَّرةً، فصلته مما قبله، فلذلك كانت إضافتُه منفصلة، ولا يضاف إلَّا إلى ما هو بعضُه، نحوَ قولك:"زيدٌ أفضلُ الرجال", لأنه واحدُ منهم.
وتقول:"هو أفضلُ رجلٍ"، وأصله: أفضلُ الرجال، إلَّا أنك خففتَ فنزعتَ الألفَ واللام، وغيرتَ بناءَ الجمع إلى الواحد الشائع دالًّا على النوع مُغْنًى عن لفظ الجمع الدالِّ على ذلك المعنى. وإن أتيتَ بالألف واللام والجمع، فقد حقّقتَ، وجئت بالأصل، وأعطيتَ الكلامَ حقه، وإن آثرتَ التخفيف والاختصارَ، اكتفيتَ بالواحد المنكورِ, لأنه يدل على الجنس، فكان كقولك:"أفضلُ الرجال"، إذ المرادُ بالرجال الجنسُ، لا رجالٌ معهودون، فهو كقولهم:"أهْلَكَ الناسَ الدرهمُ والدينارُ"، أي: حسن الدراهم والدنانيرِ.