للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثله "دارُ الآخرة"، و"حقُّ اليقين" و"حَبُّ الحَصيد"، وتأويلُه: دارُ الساعة الآخرةِ، ولذلك تُسمى القيامةُ الساعةَ، وحق الأمر اليقينِ، وحبُّ النبت الحَصيد، وكذلك كل ما جاء منه.

وقالوا: "عليه سَحقُ عمامةٍ، وجَرْدُ قَطِيفَةٍ، وأَخلاقُ ثِياب، وهل عندك جائبَةُ خَبَرٍ، ومُغَرِّبَةُ خَبَرٍ"، فهذا ظاهرُه عَكسُ ما تقدّم, لأن ما تقدّم فيه إضافة الموصوف إلى صفته، وهذا فيه إضافةُ الصفة إلى موصوفها، ألا ترى أن المعنى: عليه عمامةٌ سَحْقٌ، وهي الباليةُ، وقطيفةٌ جَرْدٌ، وهي الخَلَقُ، وثيابٌ أخلاق، أي: باليةُ، فقدم هذه الصفاتِ، وأزالها عن الوصفية، وأضافها إلى الاسم إضافةَ البعض إلى الكل على مذهب "خاتَمُ ذَهَبٍ"، والمرادُ: من ذهب، و"سوارُ فِضة"، أي: من فضة، كأنه سَحْقٌ من عمامة، جَعَل السحق بعضَ العمامة. وكذلك "جَرْدُ قطيفة" أي: من قطيفة، وأَخْلاقٌ من ثياب.

ومنه قولهم: "جائبَةُ خَبَر"، ومعناه خبرٌ يجوبُ الأرضَ من بَلَد إلى بلد، أي: يقطَعُها. يقال: جُبْتُ البِلادَ أجُوبُها، إذا قطعتَها، فلما قدمها، وأزالها عن الوصفية، احتملت أشياء، وتردّدت فيها، فأضافها إلى الخَبَر إضافةَ بيان، كقولك: "مائةُ درهمٍ" لما احتملت "المائةُ" معدوداتٍ، أضافها إلى نوع منها للبيان.

ومثله "مُغرِّبةُ خبرٍ". يقال: "هل جاءَكم مُغرِّبةُ خبرٍ" يعني خبرًا طَرَأَ عليهم من بَلَد سوى بَلَدكم، فهو لذلك غريبٌ، فلمّا قدمها، احتملت الخَبَرَ، وغيرَه، فأضافها إلى الخبر على ما تقدّم لتلخيصِ أمرها، وتَبْيينه. والهاءُ في "جائبة"، و"مغربة" للمُبالَغة كـ "علامة" و"نَسابَهٍ"؛ فأمّا قوله [من البسيط]:

والمُؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ تَمسَحُها ... رُكبانُ مَكة بينَ الغَيلِ والسنَد (١)

فالبيت للنابغة، والشاهدُ فيه إضافةُ "العائذات" إلى "الطير"، فهو من قبيلِ "سَحْقُ عِمامةٍ"؛ لأن "العائذاتِ" من صفةِ الطير. وجملةُ الأمر أن "المؤمن" اسمُ فاعل من "آمَنَ"، كما قال الله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (٢)، فالمؤمنُ، هو الله تعالى، أي: آمنهم من الخَوف لكونهم في الحَرَم، وحُلولِهم فيه.

و"العائذات" يحتمل أمرين: أن يكون مجرورًا، وأن يكون منصوبًا، فمَن جعله مجرورًا؛ كانت الكسرةُ عنده علامة الجر على حد "الحَسَنُ الوجهِ"، و"الضارب الرجلِ"، وجَرّ "الطير" بإضافةِ "العائذات" إليه على حد "هذا الضاربُ الرجل"، و"الحسنُ الوجهِ". وذلك أنك لما أَوْقعتَ اسمَ الفاعل الذي هو المؤمنُ على العائذات، وأَضفتَه إليه تخفيفًا على إقامةِ الصفة مقامَ الموصوف؛ احتمل أشياءَ من أَناسى، وغيرِهم، فبَيَّنَ ذلك بإضافته إلى الطير.


(١) تقدم بالرقم ٣٦٩.
(٢) قريش:٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>