للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أن حذفَ المضاف وإبقاء عَمَله ضعيفٌ في القياس، قليلُ في الاستعمال. أمّا ضُعْفه في القياس؛ فلوجهَيْن:

أحدهما: أن المضاف نائبٌ عن حرفِ الجرّ، وخَلَفٌ عنه، فإذا قلت: "غلامُ زيدٍ"، فأصلُه: غلامٌ لزيدٍ. وإذا قلتَ: "ثَوْبُ خَز"، فأصله: ثوبُ من خز، فحذفت حرفَ الجرّ، وبقي المضافُ نائبًا عنه، ودليلًا عليه. فإذا أخذتَ تحذفه؛ فقد أجحفتَ بحذفِ النائب، والمنوب عنه، وليس كذلك في الفصل قبلَه، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ لأنّك أقمتَ المضافَ إليَه مُقامَه، وأعربتَه بإعرابه، فصار المضافُ المحذوفُ كالمطرَح المَنْسىّ، وصارت المعاملةُ مع التأنيث الملفوظِ به.

والوجه الثاني: أن المضاف عاملٌ في المضاف إليه الجرَّ، ولا يحسُن حذفُ الجارّ، وتَبْقِيَةُ عَمَله. فمن ذلك قولُهم في المَثَل "ما كل سَوْداءَ تَمْرَة، ولا بَيْضاء شَحْمَة". موضعُ الشاهد أن ترفع "كُلاًّ" بـ "ما" وتخفِض "سوداء" بالإضافة. والفتحةُ علامةُ الخفض, لأنه لا ينصرف. و"تَمْرَةُ" منصوبٌ؛ لأنه خبرُ "ما"، و"بيضاء" مخفوضٌ أيضًا على تقديرِ "كُلّ"، كأئك لفظتَ بها، فقلت: و"لا كلُّ بيضاءَ". و"شَحْمَة" منصوبْ عَطفًا على "تمرة". وكان أبو الحسن الأخفشُ، وجماعةٌ من البصريين يحمِلون ذلك وما كان مثلَه على العطف على عاملَيْن، وهو رأيُ الكوفيين (١). وذلك أن "بيضاءَ" جر عطفًا على "سوداء"، والعامل فيها "وَمَا كُلُّ". وقوله: "شَحْمَة" منصوبٌ عطفًا على خبرِ "ما".

ومثلُه عندهم "ما زيدٌ بقائم، ولا قاعدٍ عمرٌو". وتخفِضُ "قاعدًا" بالعطف على "قائم" المخفوضِ بالباء، وترفع "عمرًا" بالعطف على اسمِ "ما"، فهمَا عاملان: الباء، وما، كما كان في المَثَل عاملان: "كُلٌّ"، و"مَا". قالوا: وقد عطفتَ شيئَيْن على شيئَيْن، والعامل فيهما شيئان مختلفان. وسيبويه والخليل لا يَرَيان ذلك، ولا يُجيزانه. والحجّةُ لهما في ذلك أن حرفَ العطف خَلَفُ عن العامل، ونائبٌ عنه، وما قام مقامَ غيره، فهو أضعفُ منه في سائرِ أبواب العربيةِ، فلا يجوز أن يتسلّط على عَمَلِ الإعراب بما لا يتسلط ما أقيم مُقامَه. فإذا أقيم مَقامَ الفعل؛ لم يجز أن يتسلّط على عَمَلِ الجرّ، فلهذه العِلة، لم يجز العطفُ عندهما على عاملَيْن، فلذلك حملوه على حذفِ المضاف.

فإن قيل: حذف المضاف وإبقاءُ عمله على خلافِ الأصل، وهو ضعيفٌ، والعطفُ على عاملَيْن ضعيف أيضًا، فلِمَ كان حَمْلُه على الجارّ أوْلى من حَمْله على العطف على عاملَيْن؟ قيل: لأن حذف الجارّ قد جاء في كلامهم، وله وَجْهٌ من القياس، فأما مَجِيئُه، فنحوُ قوله [من الرجز]:

وبَلْدَةٍ ليس لها أَنِيسُ (٢)


(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف. ص ٤٧٢.
(٢) تقدم بالرقم ٣٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>