للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمراد: ورُبَّ بلدة. وقولهم في القَسَم: "اللهِ لأَفعَلَنَّ"، ويُحكى عن رُؤْبَةَ أنّه كان يقال له: "كيف أصبحتَ؟ " فيقول: "خَير عافاكَ الله"، يريد: بِخَيْر. وقد حمل أصحابُنا قِراءةَ حَمْزَةَ في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (١) على حذف الجارّ، وأن التقدير فيه: وبالأرحام، والأمر فيها ليس بالبعيد ذلك البُعدَ، فقد ثَبَتَ بهذا جوازُ حذفِ الجارّ في الاستعمال، وان كان قليلًا، ولم يثبُت في الاستعمال العطفُ على عاملَين، فكان حملُه على ما له نظيرُ أوْلى. وهو من قبيلِ أحسنِ القبيحَيْن.

وأما من جهةِ القياس؛ فلأنّ الفعل لما كان يكثُر فيه الحذف، وشَارَكَهُ الحرفُ في كَوْنه عاملًا جاز فيه ما جاز في الفعل على سبيل النَّدْرة، وقد كثُر التقلُّبُ بهذا المَثَل,

وأجازوا فيه وجوهًا من الإعراب. وجُملَتُها خمسةُ أوجه: أحدُها ما تقدّم. والآخرُ أن تقول: ما كل سوداءَ تمرةٌ، ولا بيضاء شَحْمَة، ترفع، ولا تُعْمِل "ما"، وتعطِف جملة على جملة. الثالث: "ما كل سوداء تمرة، ولا بيضاءُ شحمة" تنصِب الأول على إعمال "ما" وترفع "بيضاءَ"، و"شحمة " على الاستئناف، كأنك عطفت جملة على جملة. الرابع: "ما كلُّ سوداء تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ"، لا تُعمِل "ما" ولكن تحذِف "كُلاَّ"، وتُبقِي أثَرَها" الخامس: "ما كلُّ سوداءَ تمرة، ولا بيضاءُ شحمةً"، وهو أحسنُها؛ لأنه لا حذفَ فيه.

فأما قول أبي دُؤَادٍ [من المتقارب]:

أَكُل امرِىءٍ تحسِبِينَ امرَأ ... إلخ

فسيبويه (٢) يحمِله على حذفِ مضاف، تقديره: و"كل نار"، إلاَّ أنه حُذف، ويُقدرها: موجودة. وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملَيْن، فيخفِض "نارًا" بالعطف على "امرئ" المخفوض بـ "كل"، وينصب "نارًا" بالعطف على الخبر. وهذا البيت مِن أَوْكَدِ ما استشهد به أبو الحسن.

وأما قولهم: "ما مثلُ عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه فهذا يجوز أن يكون المراد: ولا مثلُ أخيه، ويجوز أن لا يقدر "مثلٌ"، بل يكون "الأخُ" معطوفًا على "عبد الله" والعاملُ فيهما "مثلٌ" الأوّل، ودل على معنى خبره خبرُ الأوّل فاستغنى عنه. فلو أظهرَ خبر الثاني، وقال: "ما مثلُ عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه يكرَهُه"، لم يكن بد من تقديرِ "مِثْل" أو العطفِ على عاملَيْن، إذ كادْ "الأخُ" مجرورًا بعامل، و"يكرهه" في موضع نصب بعامل آخرَ، واذ كان لا بد فيه من أحد الوجهَيْن، وأحدهما لا يصحّ، وَجَبَ حملُه


(١) النساء:. وهي قراءة قتادة والأعمش وغيرهما.
انظر: البحر المحيط ٣/ ١٥٧؛ وتفسير الطبري ٧/ ٥١٧؛ وتفسير القرطبي ٥/ ٢؛ والكشاف ١/ ٢٤١؛ والنشر في القراءات العشر ٢/ ٢٤٧؛ ومعجم القراءات القرآنية ٢/ ١٠٤.
(٢) انظر: الكتاب ١/ ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>