للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنّ الشاهد فيه أنّه أضاف "التارك" إلى "البكريّ" على حدّ "الضارب الرجلِ"، تشبيهًا بـ "الحسن الوجهِ"، وخَفَضَ "بشرًا" عطفَ بيانٍ على "البكريّ"، وأجراه عليه جَرْيَ الصفة على الموصوف.

هذا مذهبُ سيبويه (١)، ولو كان بدلًا، لم يجز "التاركِ بشرٍ"؛ لأنّ حكمَ البدل أن يُقدَّر في موضعِ الأوْل. وقد أنكر أبو العبّاس محمّد بن يزيد جوازَ الجر في "بشرٍ" عطفَ بيان كان، أو بدلًا، وكان يُنشِد البيتَ:

أنا ابنُ التاركِ البكريّ بشرا

بالنصب. والقولُ ما قاله سيبويه، للسَّماع والقياس. فأمّا السماعُ، فإنّ سيبويه رواه مجرورًا. قال: سمعناه ممّن يُوثَق به عن العرب (٢). ولا سبيلَ إلى رَدّ روايةِ الثقة. وأمّا القياس، فإنّ عطف البيان تابعٌ كالنعت، وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، ألا ترى أنّك تقول: "يا أيُّها الرجلُ ذو الجُمَّة"، فتجعل "ذو الجُمّة نعتًا" للرجل، ولا يجوز أن يقع موقعَه؟ وكذلك تقول: "يا زيدُ الطويلُّ"، ولا يجوز: "يا الطويلُّ". وأمّا معنى البيت، فإنّه وصف أباه بأنّه صرع رجلًا من بَكْرٍ، فوقعتْ عليه الطّيْرُ، وبه رَمَقٌ، فجعلتْ ترقُب موتَه لِتتناولَ منه. و"الوقوعُ" جمعُ "واقعٍ" كـ"جالِسٍ"، و"جُلُوسٍ"، وهو ضِدُّ الطائر. ونصبُه على الحال، إمّا من المضمر المَستكِنّ في "عَلَيْهِ"، وإمّا من المضمر المرفوع في "ترقبه".

ومن الفصل بين البدل وعطف البيان أن المقصود بالحديث في عطف البيان هو الأوّلُ، والثاني بيانٌ كالنعت المستغنى عنه، والمقصودُ بالحديث في البدل: هو الثاني؛ لأنّ البدل والمبدل منه اسمان بإزاء مسمَّى مترادِفان عليه. والثاني منهما أشهر عند المخاطب، فوقع الاعتمادُ عليه، وصار الأوّلُ كالتَّوْطِئَة والبِساطِ لذكرِ الثاني، وعلى هذا لو قلت: "زوّجتُك بِنْتِي فاطمةَ"، وكانت عائشَةَ، فإن أردتَ عطفَ البيان، صحّ النكاحُ؛ لأن الغَلَط وقع في البيان، وهو الثاني، وإن أردت البدلَ لم يصح النكاحُ؛ لأنّ الغلط وقع فيما هو معتمَدُ الحديث، وهو الثاني فاعرفه.


(١) الكتاب ١/ ١٨٢.
(٢) الكتاب ١/ ١٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>