للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالنون في "يعصرن" حرفٌ، وليست اسمًا، فأمرُ النون كأمر الألف والواو في "قَاما أَخَواكَ"، و"قاموا إخْوَتُك".

فإنّ قلت: فهلا كان الاختيارُ "قاما أخواك"، و"قاموا إخوتك"، و"قُمْنَ الهنداتُ"، إذ كُنَّ حروفًا مُؤذِنةٌ بعددِ الفاعلين، كما كان الاختيارُ: "قامت هندٌ". قيل: الفرقُ بينهما أنّ التأنيث معنى لازمٌ، لا يُفارِق الاسمَ، والتثنية غيرُ لازمة، لأنّك قد تزيد عليها، فتصير جمعًا، وقد تنقُص منها، فيبقى واحدٌ، فلِلُزوم معنى التأنيث؛ لزمت علامتُه، ولَزوال معنى التثنية؛ لم تلزم علامتُها. ووجهٌ ثانٍ أنّهم لم يختاروا "قاما أخواك"، ولا "قاموا إخوتك"، لئلاّ يُتوهّم أنه خبرٌ مقدَّمٌ، فيلتبِسَ الفاعلُ بالمبتدأ، فاعرفه.

وأمّا الضمير المنصوب المتّصل، فهو يُوافِق ضميرَ المجرور في اللفظ، ويُشارِكه في الصورة. وإنّما استوت علامةُ ضمير المنصوب والمجرورِ لتَوخيهما في الإتيان على معنى المفعول، أعني أنّهما يأتيان فضلة في الكلام. وهو على ثلاثةِ أضرب: متكلِّمٌ، ومخاطَبٌ، وغائبٌ. فتقول في ضمير المتكلّم "ضَرَبَنِي"، فتكون العلامةُ الياء كما تكون في المجرور كذلك، نحو "غُلامي"، و"صاحبي"، إلّا أنّك أتيتَ بنونٍ قبل الياء، ليقع الكسرُ عليها، ويسلَمَ الفعلُ من الكسر، كأنّهم حرسوا أواخرَ الأفعال من دخولِ الكسر عليها لتباعُدِ الأفعال من الجرّ، والكسرُ لفظه لفظُ الجرّ. وذلك أنّ ياء المتكلّم تكْسِر ما قبلها إذا كان ممّا يُحرك، والذي يدلّ على أنّ النون زيادةٌ، والضميرَ هو الاسمُ وحده، أنّه متى اتصل ضميرُ المتكلّم المنصوبُ، أو المجرورُ بالاسم، كان ياء لا نون معها، وكسرتِ الياء ما قبلها؛ فأمّا المنصوب، فنحو: "الضاربي"، و"المُكْرِمِي"، فالياء منهما في موضع منصوب. والذي يدل على ذلك أنّك إذا أوقعتَ موقعه ظاهرًا، لم يكن إلا منصوبًا، نحو: "الضاربُ زيداً"، و"المُكرِمُ خالدًا". فأمّا المجرورُ، فنحو: "مَعِي"، و"غلامي"، فعلمتَ بذلك أنْ النون في "ضَرَبَنِي" ليست من الضمير في شيءٍ، وإنّما أُتي بها لأمر راجع إلى الفعل، وهو ما ذكرناه من حِراسةِ الأفعال من الكسر. وممّا يُؤيِّد عندك زيادتَها، وأنّها ليست من الاسم أنّك قد تحذِفها في نحو: "أني" و"إنِّي". قال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (١)، فأتى بنون الوِقاية على الأصل، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} (٢)، فحذف نون الوقاية. والذي يدلّ على أنّ المحذوف منها نونُ الوقاية أنّها قد حُذفت في أُخْتَيْها. قالوا: "لَعَلِّي"، و"لَيتِي". قال الله


= وجملة "هو ديافي": استئنافية لا محلّ لها من الإعراب. وجملة "يعصرن": خبر ثان لـ "هو" محلها الرفع، أو خبر "أقاربه" كما ذكرنا.
والشاهد فيه قوله: "يعصرن" فالنون هنا حرف، وليست اسمًا، على لغة "أكلوني البراغيث"، والشائع في الكلام إفراد الفعل في مثل هذه الحالة.
(١) طه: ٤٦.
(٢) القصص: ٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>