للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تكون علامةَ إضمار، فكرهوا أن يأتوا بحرفٍ غيرِ النون، فيخرجَ عن علامات الإضمار.

فإن قيل: فلِمَ زِدتموها فيما آخِرُه ألف من الأفعال، نحو: "أعطاني"، و"كساني"، والكسرُ لا يكون في الألف؟ قيل: لما لزمت النونُ والياءُ في جميعِ الأفعال الصحيحة لِما ذكرناه، صارت كأنها من جملةِ الضمير، فلم تُفارِقها لذلك، مع أن الحكيم يُدار على المَظِنة لا على نفس الحِكْمة، والياءُ مظنّتُه كسرُ ما قبلها، والذي يدلّ على أن النون مزيدةٌ لِما ذكرناه أن هذا الضمير إذا اتصل باسمٍ، لم تأت فيه بنون الوقاية، نحو: "الضاربي"، و"الشاتمي"، فالياء ههنا في محلّ نصب، كما تقول: "الضاربُ زيدًا"، ولم تأت معه بنون الوقاية؛ لأنه اسمٌ يدخله الجرُّ، فلمّا كان الجرُّ مما يدخله، لم يمتنع مما هو مقاربٌ له.

فإن قيل: فهلّا حُرست الأفعالُ من الكسر في مثلِ "اضْرِب الرجلَ". قيل: الكسرةُ ها هنا عارضةٌ لالتقاء الساكنين، فلا يُعْتَد بها موجودةً، ألا ترىَ أتك لا تُعيد المحذوفَ لالتقاء الساكنين في مثل: "زَنَتِ المرأةُ"، و"بَغَتِ الأَمَةُ"، وإن كان أحدُ الساكنين قد تَحرَّك، إذ الحركةُ عارضة لالتقاء الساكنين.

وقد أدخلوا هذه النون مع "إنَّ" وأخواتها، فقالوا: "إنني"، و"أنني"، و"كَأَننِي"، و"لكِننِي"، و"لَعَلَّنِي" و"لَيْتَنِي", لأنها حروف أشبهتِ الأفعالَ، وأُجريت في العمل مُجراها، فلزمها من علامة الضمير ما يلزم الفعلَ.

وقد جاءت محذوفةً، وأكثرُ ذلك في "إن"، و"أن"، و"لكِن"، و"كَأنَّ"، فقالوا: "إنِّي"، و"أنَّي"، و"لكنِّي"، و"كَأنِّي"، وإِنّما ساغ حذفُ النون منها لأنّه قد كثُر استعمالُها في كلامهم، واجتمعت في آخِرها نونات، وهم يستثقلون التضعيف، ولم تكن أصلاً في لحاقِ هذه النون لها، وإنّما ذلك بالحمل على الأفعال، فلاجتماع هذه الأسباب سوّغوا حذفَها. وقد حذفوها من "لَعَلَّ"، فقالوا: "لَعَلّي"؛ لأنه، وإن لم يكن آخِرُه نونًا؛ فإنّ اللام قريبة من النون، ولذلك تُدّغَم فيها في نحو قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْهُ} (١)، فأُجريت في جواز الحذف مجراها.

وأما "لَيْتَ"، فلمّا لم يكن في آخِرها نونٌ، ولا ما يُشْبِه النونَ؛ لزمتها النونُ، ولم يجز حذفُها إلَّا في ضرورة الشعر.

فأمَّا قوله [من الوافر]:

كمُنْيَةِ جابِر إذْ قال لَيتِي ... إلخ

البيت لزيدِ الخَيْلِ، وهو زيدُ بن مُهَلْهِل بن يزيد بن مُنْهِب الطائي، وكان شاعرًا مُجيدًا، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وَفْدِ طيئٍ سنةَ تسع، فأسلمَ، وسمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيدَ الخَيْر، وقال: ما وُصف لي أحدٌ في الجاهلية إلَّا رأيتُه دون ما وُصف غيرك، وقبله:

تَمَنَّى مَزيَدٌ زيداً فلَاقَى ... أَخَا ثِقَةٍ إذا اخْتَلَفَ العَوالِي


(١) النساء:٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>